الجمعة، سبتمبر 5

قصة كاتب ميت!


قصة كاتب ميت!

قصة قصيرة
بقلم: اياد نصار

قبل أن أموت كتبت القصة التالية. كنت سعيداً بها. بل كنت في غاية السعادة. قصة فريدةلم يُكتب مثلها من قبل، لا شكلاً ولا مضموناً! كان من عادتي حبُ التجريب وابتداعُ أنماطٍ جديدةٍ للتعبير. أحسستُ دائماً أن هناك قوالبَ أخرى لم تكتشفْ بعد، وأن فنوناً أخرى لم يعرفها البشر لم تولدْ بعد. مكثت أسبوعاً وأنا أكتبها. كلما شعرت أنني فرغت منها، فأعدت قراءتها وجدت أنها لم تكتمل. أعدتُ النظرَ فيها مراراً. كلما عدت اليها مرة أخرى، تراءى لي شيء جديد. فأحدث نفسي إنه من الافضل لو أضفته للقصة. بقيت أزيد تفاصيل أخرى هنا وهناك. شعرتُ في كلَّ مرةٍ أنها أصبحت أكثر روعةً وجمالاً. فلم أنته منها!

عندما شرعت في كتابتها، سيطرت على أفكاري قصةٌ إنسانيةٌ راودت خيالي منذ أمد بعيد. ولكنها كانت باهتةً في الذهن غير مكتملة الرؤية. كنت أركنها جانباً وأبدأ بأخرى. مرت أعوام وأعوام والفكرة لم تبارح خيالي، لكنها لم تجد همّة أو إلهاماً لكتابتها. أظن أن هذا ليس شيئاً غريباً على من أصابته الكتابة بدائها! فكم التمعت في الذهن بادرةٌ، أو مرت في لحظات الرغبة والصفاء فكرةٌ تستهوي القلم كنجمة متألقة بعيدة في السماء في ليلة صيف. ولكنها بقيت حبيسة الخاطر! وذات يوم وجدتها تتسلل هادئةً غامضةً في طقوس الكتابة وأجوائها. أمسكتُ خيوطَها ولم أفلتها هذه المرة. شعرت بتأنيب الضمير على هجرانها طوال هذه المدة.

لقد عشت القصة بكل تفاصيلها ومجرياتها وأحاسيسها. لم تكن من ابداعِ خيالِ قاص ٍ ولا من ريشةِ فنان ولا من إلهامِ شاعر. كانت حقيقيةً إلى حد الخيال، وخياليةً إلى حد اللامعقول. عشت كل لحظة فيها وأدركت معنى أن تنقلب حياتك رأساً على عقب ولا تستطيع وقفها. كانت كالقدر المكتوب الذي تجد نفسَك أمامه مشلولَ الارادة. أحسست أن كلَّ جزءٍ منها قد رسمه القدر. فاستسلمت للمصير. لم يكن في بالي أن أكتبها، ولم أتصرف كما لو أنني سأكتب عنها ذات يوم. كلما أمعنت التأمل فيها، شعرت أنها قد غيرت مسار حياتي كلها.

كنت أعرف مسبقاً أن القصة ستثير التساؤل والاستهجان. شكل جديد لم يألفه الكتّاب من قبل. أيقنت أنها ستجدُ من يقف معها ويدافع عنها كأي شيء جديد يرمي في البركة الراكدة حجرا. لكنني أدركت أنها ستجد من يقف ضدها ويحاربها. ليس من السهل على الناس قبولُ الشيء الجديد. يحاربونه ويقفون ضده بالمرصاد! عرفت أنهم سيلقون عليها بكل الاتهامات والصفات الذميمة، وكأن الواقع شيء رائع! وسيترحّمون على أيام زمان! يريدون الجديد الذي لا يسبب شكاً ولا صداعاً ولا رمادية ولا ضبابية ولا يغير في عاداتهم شيئاً!

عشتُ دائماً أحلم بتقديم شيء جديد. كنت أحسب أن العملَ الجديد سيفرض نفسه، ولكنني كنت مخطئاً جداً! اكتشفت بعد سنوات طويلةٍ أن الامر لا يعدو أكثرَ من علاقاتٍ عامة وقليلٍ من الصدفة أو الحظ! ولكن ذلك لم يحطم إرادتي في أن أحقق حلمي. آه كم استهوتني هذه العبارة. "أنا عندي حلم". فلماذا لا يكون لي حلمي الرائع؟! ولكن الحلم يتحول أحياناً إلى كابوس من المصاعب والشكوك والإعراض من الاخرين. قد يبدو حلمي شيئاً غريباً أو نرجسياً ، أو نوعاً من الغرور ، أو نزوة في مجرد تقديم شكل آخر. وقد ينظر اليه ناقد أنه نوع من الخربشات والهلوسات! ولكن الامر في حقيقته ينبع من الرغبة في استكشاف عوالم جديدة للتعبير.

تعبتُ ليالٍ طويلة من السهر وأنا أكتبها وأدقق بها وأحسّنها. ومن سخرية القدر أنها لم تكن هي ذات القصة التي كانت في خيالي عندما شرعت بها! لقد خرجت عملاً آخر غير الذي كان في ذهني!! صحيح أنها رائعةٌ ونوعٌ جديد من أنماط التعبير، ولكن نهايتها غير ما كنت أتخيله! بقيت الفكرة الاساسية كما هي في ذاكرتي ولكنني أضطررت لتعديل الحبكة والشخصيات وشكل القصة والنهاية!! إنها تجربة جديدة ولكن لم تجد من يقدرها. كنت متأكداً من الابداع والابتكار فيها ولكن لم يلتفت لي أحد! الناس تبحث عن الاسماء الكبيرة قبل أن تحكم على الاشياء. كنت أعزي نفسي فأقول سيأتي يوم ويعرفها الناس. بقيت أنتظر ذلك اليوم. مرت السنوات ولم يأت!

أعرف أني أطلت في حديثي قبل أن أسرد القصة الغريبة. ولكن هذه الحيثيات لا بد منها لتعرفوا كيف ولدت القصة. ولتعرفوا الحلم الذي راودني طويلاً حتى كتبتها بعد كل هذه السنوات. دفعت بها إلى صديق معروف بأبحاثه ومقالاته وكتبه. يحب القصة والرواية ويجد متعته في تحليلهما والكتابة عنهما. كنت أسمعه في جلسات الاصدقاء يقول إنه من رواد التجديد ودعاته، وأنه أخذ بيد العديد من الكتّاب في بداية حياتهم وصنع منهم أقلاماً وأسماء كبيرة. مرت أيام وشهور ولم أسمع منه شيئاً عنها. كنت أتلهف لسماع رأيه فيها أو أن أراها منشورة مع تقديم يتناولها بالنقد! ومرت الايام والشهور ولم أر شيئاً. وفي يوم من الايام التقينا صدفة على هامش مؤتمر أدبي. حينما دخلت إلى القاعة. كان يجلس أمامي. لم أنتبه أول الامر، ولكن حينما تململت في مكاني وتطلعت هنا وهناك رأيته. اقتربت منه برأسي وسلمت عليه. كان لقاءً ودياً أشعرني بأن حبال المودة لم تزل قائمة! اعتذر عن انشغاله الدائم. قال إنه يستقبل كل يوم روايات كثيرة وقصصاً قصيرة وبالكاد يجد وقتاً لقراءتها! أسرّ لي بحكم الصداقة إن الاسماء الكبيرة تأخذ الأولوية! لا يستطيع تأخيرها وإلا غضبوا عليه! وعدني أن يقرأها في الايام التالية. مرت أسابيعٌ وشهور ولم يحرك ساكناً.

مرت عشر سنوات منذ أن فارقت الحياة. نسيت التفكير في تلك القصة منذ ذاك اليوم. لم أجرؤ على السؤال عنها ولم أجرؤ على نشرها في مكان آخر. ولكن أصابني فضول شديد لمعرفة إن كان ما يزال يتذكرني أحد بعد كل هذه السنوات. فخرجت أتجول وأقرأ عناوين الصحف وملاحقها الادبية! لقد كتبت الصحف عني في ذكرى وفاتي العاشرة وخصصت لي بعض الملاحق الأدبية صفحات للحديث عن أدبي ومساهماتي في رفد الحركة الادبية، وأشادت بي كثيراً. كتبوا كلاماً كثيراً في تأبيني وأبرزوا بعناوين عريضة ملاح موهبتي وأسلوبي المتميز وقدرتي على التجديد! رأيت كلاماً لم أكن أسمع به من قبل في حياتي! واستغربت إن كان ذلك موجوداً فيّ فعلاً، ولماذا لم أسمع كلمة واحدة منه طوال حياتي؟! كنت أقرأ في الملاحق ذلك اليوم حينما وقعت عيني على مقالة طويلة لصديقي الناقد وهو يشيد بقدرتي على التجديد وتقديم شكل جديد من أشكال التعبير القصصي وقد نشر في أسفلها تلك القصة، ولم ينسَ أن يكتبَ في زاوية مقاله بأعلى الصفحة عبارةً بخطٍ عريض تقول قصة رائعة جديدة لم تنشر من قبل للكاتب الراحل!

* اللوحة من ريشة الفنان الفرنسي أندريه ديرين (1880-1954)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق