درج الورد
بقلم: اياد نصار
عادت المدينة ذات زمان قريب من عمق التاريخ وتثاءبت ومدت يديها على قمم وسفوح جبالها السبعة.. كانت ما تزال أطياف الحوريات مرتسمة على جدران سبيلها والربّة في أطلال معبدها. ولدت طفلة جميلة تحت ظلال الحور والسنديان والسرو عند راس العين، وصارت تكبر وتكبر معها حكاية إنسان. نحَتَ في صمتٍ صبورٍ قصته في الحجر. جعل من حجارة جبالها وتراب سفوحها داراً مفتوحة على السنابل وهي تعانق أهداب الشمس. أخذت تحبو المدينة.. مدت أطرافها حواليها.. كبرت جدايلها وضجت بالحياة شرايينها. صارت الدار دوراً وكبر الحلم. مضى العمر، وصارت الجبال حكاية تاريخها. تمددت فوق ذرى الجبال وراحت تكبر في المدى فوق سهولها، وبقيت حكاية جبالها السبعة تستوطن الذاكرة.
حمل سيزيف الصخرة على ظهره وصعد بها جبالها فأرهقته.. تدحرجت وعادت للسفح فعاد يحملها من جديد. حمل الصخرة وصعد بها يريد أن يبني بيته على قممها. كانت الرحلة شاقة متعبة، والصخرة تفلت من يديه وتعود للقاع، ولكن حلمه لم يفارق خياله. نحت طريقاً ملتوية متعرجة من القاع الى القمة كي يستطيع أن يحمل معه الحلم ويهبط به كل يوم الى وسط المدينة، وحين يحل الغروب يعود حاملا اياه الى أعالي الجبل. أرهقت الطريق ساكنيها وهم يصعدون ويهبطون الجبال كل يوم مثل سيزيف ولكنهم لم ييأسوا. صارت المدينة بدروبها الصاعدة والنازلة قدرهم. وبنى العمّاني ذات يوم بعيد درجاً من الحجارة كي يصعد وينزل عليه الى قلب مدينته عند سبيل حورياتها.
كبرت المدينة وصار يبني في كل عام درجاً. وتناثرت على جوانبها بيوت صغيرة متلاصقة. صارت الادراج ساحات طفولة الاولاد، ومجلس السيدات والعجائز على عتبات البيوت تحت ظلال الياسمين. منذ زمن لا نعيه، صارت عمان مدينة الادراج السبعمائة بل السبعة الاف. في كل مكان تراها.. صارت الادراج جسور المدينة الصغيرة التي تشهد عذابات الفقراء وكدّهم وحبات عرقهم.. تقف صامتة بلا رتوش.. أحيانا تبدو جميلة مرصوفة بالحجارة تظللها أشجار الياسمين وتعبق برائحتها، وأحيانا تبدو مغبرة اسمنتية كالحة، وفي أحيان أخرى ترى على جدرانها الاستنادية الطويلة الفن الطفولي بألوانه وطباشيره وعبثه. وأحيانا تبدو جافة عطشى تنتظر سيدات البيوت ليقمن برش سطوحها بالماء، فتزكم رائحة التراب المندّى والغبار الانوف.. هل يا ترى ما تزال نساء عمان يسكبن الماء على أدراجها كما كانت تفعل أمي؟ في أيامٍ ترى المياه تسيل على درجاتها لتستقر في الشوارع، فتعرف أنه الصيف وأن المياه لا تصل بيوتها في الاعالي الا بصعوبة كخيط الحياة الواهن.. كم فكرت وأنا أصعد وأهبط أدراجها الطويلة أن كل بيت من هذه البيوت يخفي قصة معاناة انسانية خلف جدرانه. تسيل المياه على الادراج فتدخل الى فناء البيت بالاسفل. تخرج السيدة صائحة حانقة على جارتها. وتكاد الادراج أن تسلب وداً متوتراً كضوء شمعةٍ في مهب ريح، أو تضع نهايةً لحسن جوارٍ قتلته المعاناة، وقلة الصبر، والفقر! ترى القطط تذرع الادراج بحثاً عن صيد تسدّ به رمقها، فتعبث بأكوام النفايات وتبعثرها. صارت الادراج ملاذها وبيتها ومطعمها من عنف الشوارع التي تسحقها فيها السيارات النزقة.
تحكي أدراج عمان سيرة المدينة وتاريخها منذ أن تفتحت عيناها على العصر الحديث، ومنذ أن وفدت العائلات السلطية والشامية والفلسطينية والشركسية والأرمنية اليها. إنها جزء لا يتجزأ من مفردات عمان القديمة التي ربما تدخل ذات يوم كتاب غينيس في أعداد درجاتها التي تساوي عدد سكانها، بل لقد تم اطلاق أسماء رسمية عليها اعترافاً بها مثل درج فروة الجذامي. كانت فيما مضى الادراج من الحجر الذي يعطي احساساً بالفخامة والاتقان والحميمية في علاقة الانسان بالمكان، كما هي الحال في مناطق جبل عمان القديمة، وصارت الادراج الان من الاسمنت ذي القلب البارد. هو ذاته التغير الذي عرفته عمان من مدينة صغيرة تتسم علاقات أهلها بدفء ومعرفة عميقة الى مدينة واسعة تتسم بصفات المدن المعاصرة كالبرود واللامبالاة!
ما تزال أدراج عمان ترتبط في الذاكرة الشعبية ارتباطاً وثيقاً حتى اليوم. تشهد أدراج حي المهاجرين التي تصله بحي خرفان وبامتداد سفح جبل عمان على قصة احتضان المدينة لموجات المهاجرين اليها، وتعبّر البيوت الاسمنتية المتراكبة فوق بعضها عن أجيال سكانها الذين تعاقبوا على المكان فزادوا غرفة هنا وطابقاً عشوائيا هناك. وما زال درج الكلحة يروي قصة وسط البلد عند التقاء شارع السلط بنهاية جبل اللويبدة الجميل.. هذا الحي المليء بأدراجه الذي أحبه الادباء والفنانون فاتخذوا منه مقرا لروابطهم ذات يوم.. إنه ذاته الذي استهوى مؤنس الرزاز ويوسف ضمرة وماجد ذيب غنما فأقاموا فيه وشعروا أنهم مثل السمك الذي لا يقدر أن يغادر بحره. ويقف الجبل الاخضر شامخاً بأدراجه الطويلة التي يكاد النظر لا يصل الى نهايتها، فتتعجب من قدرة احتمال العمّاني على الصبر عشقاً للمكان. كم سارت عليك أيتها الادراج أقدام المتعبين وهي تدب في سبيل لقمة العيش بين هبوط في أول النهار عند صياح الديك وصعود عند الغروب. آه يا عمان كم من شيخ أو عجوز قضى عمره يصعد أدراجك.. وكم من أحد أتعبته أدراجك في الصيف، فوقف يستند الى جدار أو باب أو عمود أو قعد عليها يستريح، والعرق يتصبب من جبينه.. أو احتمى من المطر بمظلات مداخل البيوت في الشتاء فداهمته مياه الدرج الجارفة. وبرغم ضيق المكان، ومشقة الطريق، فان للدرج خصوصيته وذكرياته ولمسته الحانية حيث تصبح حكايات البيوت الحزينة حكاية كل واحد من الساكنين على الدرج. وبرغم الازدحام والاكتظاظ والضجيج، هناك شرفة صغيرة في كل بيت تقريبا تعتبر متنفسه الذي يطل منه على منظر الدالية أو أسطح الجيران حيث أبراج الحمام أو شوارع المدينة المزدحمة. لعلها تلك الشرفة هي التي أعطت الناس أملا ومنظرا جميلاً يتحملون كل شيء لأجل رؤيته كل يوم. آه كم قضيت سنوات من عمري على أدراجك يا عمان.. درج المحكمة الشرعية الذي كنت أنزل منه الى شارع بسمان.. أو درج منكو الى سوق الملابس.. أو درج الاستقلال الى شارع البريد.. أو أدراج مخيم الحسين بين بيوت الصفيح والازقة والقنوات المكشوفة الموحلة في الشتاء.. أو أدراج جبل عمان حوالي الدوار الاول.. أو أدراج المهاجرين التي كانت تطل ذات يوم على مبنى شركة الدخان التي دُرست معالمها.. ربما ليس هناك درج ليس لي عنده ذكريات. فهل نالت أدراج عمان حظاً من روائييها وقصاصيها وشعرائها؟ سؤال مفتوح.. وتظل عمان كما قالت فيروز "درج الورد مدخل بيتنا".
inassar98@hotmail.com
نُشرت في جريدة الرأي الاردنية / الملحق الثقافي ليوم الجمعة 20/11/2009. يمكن قراءة النص على موقع الصحيفة على الرابط التالي:
درج الورد - جريدة الرأي
كما يمكن تحميل الصفحة الكاملة وقراءة النص من خلال الرابط التالي:
جريدة الرأي - الصفحة الكاملة
بقلم: اياد نصار
عادت المدينة ذات زمان قريب من عمق التاريخ وتثاءبت ومدت يديها على قمم وسفوح جبالها السبعة.. كانت ما تزال أطياف الحوريات مرتسمة على جدران سبيلها والربّة في أطلال معبدها. ولدت طفلة جميلة تحت ظلال الحور والسنديان والسرو عند راس العين، وصارت تكبر وتكبر معها حكاية إنسان. نحَتَ في صمتٍ صبورٍ قصته في الحجر. جعل من حجارة جبالها وتراب سفوحها داراً مفتوحة على السنابل وهي تعانق أهداب الشمس. أخذت تحبو المدينة.. مدت أطرافها حواليها.. كبرت جدايلها وضجت بالحياة شرايينها. صارت الدار دوراً وكبر الحلم. مضى العمر، وصارت الجبال حكاية تاريخها. تمددت فوق ذرى الجبال وراحت تكبر في المدى فوق سهولها، وبقيت حكاية جبالها السبعة تستوطن الذاكرة.
حمل سيزيف الصخرة على ظهره وصعد بها جبالها فأرهقته.. تدحرجت وعادت للسفح فعاد يحملها من جديد. حمل الصخرة وصعد بها يريد أن يبني بيته على قممها. كانت الرحلة شاقة متعبة، والصخرة تفلت من يديه وتعود للقاع، ولكن حلمه لم يفارق خياله. نحت طريقاً ملتوية متعرجة من القاع الى القمة كي يستطيع أن يحمل معه الحلم ويهبط به كل يوم الى وسط المدينة، وحين يحل الغروب يعود حاملا اياه الى أعالي الجبل. أرهقت الطريق ساكنيها وهم يصعدون ويهبطون الجبال كل يوم مثل سيزيف ولكنهم لم ييأسوا. صارت المدينة بدروبها الصاعدة والنازلة قدرهم. وبنى العمّاني ذات يوم بعيد درجاً من الحجارة كي يصعد وينزل عليه الى قلب مدينته عند سبيل حورياتها.
كبرت المدينة وصار يبني في كل عام درجاً. وتناثرت على جوانبها بيوت صغيرة متلاصقة. صارت الادراج ساحات طفولة الاولاد، ومجلس السيدات والعجائز على عتبات البيوت تحت ظلال الياسمين. منذ زمن لا نعيه، صارت عمان مدينة الادراج السبعمائة بل السبعة الاف. في كل مكان تراها.. صارت الادراج جسور المدينة الصغيرة التي تشهد عذابات الفقراء وكدّهم وحبات عرقهم.. تقف صامتة بلا رتوش.. أحيانا تبدو جميلة مرصوفة بالحجارة تظللها أشجار الياسمين وتعبق برائحتها، وأحيانا تبدو مغبرة اسمنتية كالحة، وفي أحيان أخرى ترى على جدرانها الاستنادية الطويلة الفن الطفولي بألوانه وطباشيره وعبثه. وأحيانا تبدو جافة عطشى تنتظر سيدات البيوت ليقمن برش سطوحها بالماء، فتزكم رائحة التراب المندّى والغبار الانوف.. هل يا ترى ما تزال نساء عمان يسكبن الماء على أدراجها كما كانت تفعل أمي؟ في أيامٍ ترى المياه تسيل على درجاتها لتستقر في الشوارع، فتعرف أنه الصيف وأن المياه لا تصل بيوتها في الاعالي الا بصعوبة كخيط الحياة الواهن.. كم فكرت وأنا أصعد وأهبط أدراجها الطويلة أن كل بيت من هذه البيوت يخفي قصة معاناة انسانية خلف جدرانه. تسيل المياه على الادراج فتدخل الى فناء البيت بالاسفل. تخرج السيدة صائحة حانقة على جارتها. وتكاد الادراج أن تسلب وداً متوتراً كضوء شمعةٍ في مهب ريح، أو تضع نهايةً لحسن جوارٍ قتلته المعاناة، وقلة الصبر، والفقر! ترى القطط تذرع الادراج بحثاً عن صيد تسدّ به رمقها، فتعبث بأكوام النفايات وتبعثرها. صارت الادراج ملاذها وبيتها ومطعمها من عنف الشوارع التي تسحقها فيها السيارات النزقة.
تحكي أدراج عمان سيرة المدينة وتاريخها منذ أن تفتحت عيناها على العصر الحديث، ومنذ أن وفدت العائلات السلطية والشامية والفلسطينية والشركسية والأرمنية اليها. إنها جزء لا يتجزأ من مفردات عمان القديمة التي ربما تدخل ذات يوم كتاب غينيس في أعداد درجاتها التي تساوي عدد سكانها، بل لقد تم اطلاق أسماء رسمية عليها اعترافاً بها مثل درج فروة الجذامي. كانت فيما مضى الادراج من الحجر الذي يعطي احساساً بالفخامة والاتقان والحميمية في علاقة الانسان بالمكان، كما هي الحال في مناطق جبل عمان القديمة، وصارت الادراج الان من الاسمنت ذي القلب البارد. هو ذاته التغير الذي عرفته عمان من مدينة صغيرة تتسم علاقات أهلها بدفء ومعرفة عميقة الى مدينة واسعة تتسم بصفات المدن المعاصرة كالبرود واللامبالاة!
ما تزال أدراج عمان ترتبط في الذاكرة الشعبية ارتباطاً وثيقاً حتى اليوم. تشهد أدراج حي المهاجرين التي تصله بحي خرفان وبامتداد سفح جبل عمان على قصة احتضان المدينة لموجات المهاجرين اليها، وتعبّر البيوت الاسمنتية المتراكبة فوق بعضها عن أجيال سكانها الذين تعاقبوا على المكان فزادوا غرفة هنا وطابقاً عشوائيا هناك. وما زال درج الكلحة يروي قصة وسط البلد عند التقاء شارع السلط بنهاية جبل اللويبدة الجميل.. هذا الحي المليء بأدراجه الذي أحبه الادباء والفنانون فاتخذوا منه مقرا لروابطهم ذات يوم.. إنه ذاته الذي استهوى مؤنس الرزاز ويوسف ضمرة وماجد ذيب غنما فأقاموا فيه وشعروا أنهم مثل السمك الذي لا يقدر أن يغادر بحره. ويقف الجبل الاخضر شامخاً بأدراجه الطويلة التي يكاد النظر لا يصل الى نهايتها، فتتعجب من قدرة احتمال العمّاني على الصبر عشقاً للمكان. كم سارت عليك أيتها الادراج أقدام المتعبين وهي تدب في سبيل لقمة العيش بين هبوط في أول النهار عند صياح الديك وصعود عند الغروب. آه يا عمان كم من شيخ أو عجوز قضى عمره يصعد أدراجك.. وكم من أحد أتعبته أدراجك في الصيف، فوقف يستند الى جدار أو باب أو عمود أو قعد عليها يستريح، والعرق يتصبب من جبينه.. أو احتمى من المطر بمظلات مداخل البيوت في الشتاء فداهمته مياه الدرج الجارفة. وبرغم ضيق المكان، ومشقة الطريق، فان للدرج خصوصيته وذكرياته ولمسته الحانية حيث تصبح حكايات البيوت الحزينة حكاية كل واحد من الساكنين على الدرج. وبرغم الازدحام والاكتظاظ والضجيج، هناك شرفة صغيرة في كل بيت تقريبا تعتبر متنفسه الذي يطل منه على منظر الدالية أو أسطح الجيران حيث أبراج الحمام أو شوارع المدينة المزدحمة. لعلها تلك الشرفة هي التي أعطت الناس أملا ومنظرا جميلاً يتحملون كل شيء لأجل رؤيته كل يوم. آه كم قضيت سنوات من عمري على أدراجك يا عمان.. درج المحكمة الشرعية الذي كنت أنزل منه الى شارع بسمان.. أو درج منكو الى سوق الملابس.. أو درج الاستقلال الى شارع البريد.. أو أدراج مخيم الحسين بين بيوت الصفيح والازقة والقنوات المكشوفة الموحلة في الشتاء.. أو أدراج جبل عمان حوالي الدوار الاول.. أو أدراج المهاجرين التي كانت تطل ذات يوم على مبنى شركة الدخان التي دُرست معالمها.. ربما ليس هناك درج ليس لي عنده ذكريات. فهل نالت أدراج عمان حظاً من روائييها وقصاصيها وشعرائها؟ سؤال مفتوح.. وتظل عمان كما قالت فيروز "درج الورد مدخل بيتنا".
inassar98@hotmail.com
نُشرت في جريدة الرأي الاردنية / الملحق الثقافي ليوم الجمعة 20/11/2009. يمكن قراءة النص على موقع الصحيفة على الرابط التالي:
درج الورد - جريدة الرأي
كما يمكن تحميل الصفحة الكاملة وقراءة النص من خلال الرابط التالي:
جريدة الرأي - الصفحة الكاملة