الأحد، مايو 23

حوار مع صحيفة القبس الكويتية

في حوار نشر في صحيفة القبس الكويتية بتاريخ 23/5/2010:

القاص والناقد إياد نصار: القصة القصيرة اقتصاد وتكثيف وأشياء أخرى

عمان - القبس
القاص والناقد الاردني اياد نصار من الاقلام المتوهجة على الساحة الاردنية الذي أخذ يتابع نشر انتاجه بانتظام، ويداوم على حضور الكثير من النشاطات والفعاليات الابداعية المختلفة. يتقد شعلة حماسة كما قال الناقد فخري صالح. يقدم اياد نصار عالمه القصصي المشحون بقلق الانسان العربي الراهن أمام صدمة المتغيرات وقسوة الواقع وايقاع الحياة الجديد، في إطار أسلوبه السردي الخاص به في مجموعتيه القصصيتين «أشياء في الذاكرة» التي صدرت في عام 2008 ومجموعة «قليل من الحظ» التي صدرت مطلع هذا العام. وهو هنا يفتح مجالاً للنقاش والتعريف بقصه الجديد.


حاول نصار ركوب آلة الزمن، وراح يطوف عبر الازمان منذ بدء الحياة حتى الزمن الحاضر، وتطالعنا في مجموعته القصصية الثانية «قليل من الحظ» لغة أنيقة تركز كما قال الناقد الدكتور محمد عبيد الله «على الوصف الداخلي، وعلى حركة الإنسان الجوانيّة، من دون أن تنسى متطلبات السّرد وتتابع الحكاية، ومن دون أن تتخلّى عن منظور القصة القصيرة التي تتخذ من الاختزال ومن الاقتصاد اللغوي أساساً لبنائها، وهي في ذلك تسير على المبادئ الكبرى لروادها الأوائل، وتطوّرها بما يناسب زماننا الراهن».
القبس التقته وكان هذا الحوار:

• برز التكثيف كأحد أهم مميزات القصة القصيرة مرتبطاً بالوصول الى عمق القارئ والتأثير فيه بأقل قدر من المفردات وأكثرها قدرة على الوصول والتحيير. كيف تنظر الى مجموعتك القصصية الاولى «أشياء في الذاكرة» ضمن هذا المفهوم؟

ــــ التكثيف والاقتصاد اللغوي مهمان بشكل عام في عالم القصة القصيرة في مقابل الاسهاب والاطالة والاغراق في التفاصيل الزائدة التي قد تقتل روح القصة، وتخمد ثورة الشعور الذي تولده في القارئ، لكن ينبغي أن نبدد وهم أن القصة هي مجرد ومضة أو أقصوصة أو بضعة أسطر أو فقرات قصيرة كما تفضلها الصحف العربية بسبب اعتبارات المساحة المتاحة، هذا معيار صحفي وليس نقدياً! هناك الكثير من القصص التي يكتبها كتاب قصة معروفون في العالم العربي وفي الاداب الاجنبية. عبد الستار ناصر القاص والروائي العراقي المعروف أصدر منذ أيام مجموعة قصصية بعنوان «السيدة التي دخلت» عد فيها أهم وأجمل قصة تلك التي تقع في 43 صفحة! طبعا أنا لم أكتب قصة بهذا الطول، ولم أكتب حتى القصة الطويلة! ومن يقرأ قصص الروائية والقاصة الاميركية المعروفة كارول جويس اوتيس يعرف معنى ما أقوله. صحيح أنني متأثر بأجواء بعض الاعمال القصصية والنقدية الغربية المعاصرة، لكن التكثيف ليس مجرد الايجاز والاختصار فقط. أكتب القصة بمفهوم السرد الذي يستكشف العالم الجواني بعيداً عن الزوائد اللفظية والتهويمات التي لا تقول شيئا سوى ملء الفراغ، لكنه سرد يقتنص لحظة هاربة من الزمن بكل مفارقاتها وسخريتها وأبعادها النفسية والفلسفية، وبهذا فإنها قد تكون أكثر من مجرد لحظة خاطفة مكثفة. لا بد لي من التأكيد أنني اسعى الى تقديم قصة قصيرة واقعية ذات مضمون عربي انساني تنطوي على الكثير من التعاطف مع أبطالها الذين يخوضون محنة العيش وقلقه، ويتجرعون الحزن والالم والانتظار بصمت، وبلغة تستجيب لذائقة القارئ الفنية. لست مع ذلك النمط لدى بعض كتاب القصة الذي يقوم على توظيف تهويمات اللغة كتمرين انطباعي لمجرد تقديم نصوص محلقة في عالم الخيال، أو الاغراق في لغة متوحشة أقرب ما تكون الى الفوضى والاستفزاز الروحي، أو السعي الى إحداث الدهشة المفاجئة واجتزاء الموقف لتعميق احساس معين.

صور الماضي
• لاحظنا بروز مفهوم تأثير الماضي على مصير الانسان في الحاضر وتوظيفه في عدد من مجموعتك القصصية الاولى «أشياء في الذاكرة». كيف تفسر هذا الامر؟

ــــ الماضي بمراراته الكثيرة واشراقاته القليلة عبء ثقيل لا يمكننا أن نهرب منه، وهو أساس الحاضر والمستقبل. عندما أتوقف لأتأمل وأرسم مشهدي القصصي لا استطيع أن أنعزل عن الماضي. الماضي محتشد كامن مثل أوهام ورغبات العقل الباطن، لا يمكن أن يزول من أعماقنا ومن ذاكرتنا. أحب أن أبعث الماضي من جديد، في صورة انسانية فيها قدر من التفهم والاحساس بعذاب النفس الصامت وقدرة اللغة أن تصنع فينا الكثير كالسحر. قلق الحاضر ذو أبعاد متشابكة من عمق الماضي، وكما يدل العنوان فإن الذاكرة والماضي لا ينفصلان ويستدعيان شهية البوح. أعتقد أنه لم يعد كافياً في القصة مجرد الادهاش والمفآجات اللغوية المجزوءة، فقصص الواقع اليومي التي نعايشها تسد هذا الجانب. لا بد للقصة من مسحة جمالية شفافة تستوحي فيها التعبير عن فلسفة الحياة وانكسار الاحلام من دون أن تقع تحت وهم اللقطة الخاطفة.

زمن الرواية
• يرى بعض النقاد العرب أن من اسباب تغلب القصة القصيرة على الرواية في عالمنا العربي أن الجرائد والانترنت لعبت دورا في ذلك. كيف ترى هذا الرأي؟

ــــ رغم العلاقة الاثيرة بيني وبين القصة، وقربها الى نفسي واحتفائي بها وبكتابها عربياً وعالميا، وبرغم المساحة القليلة التي تفردها الصحف للقصة القصيرة، وبرغم منابر القصة على الانترنت ومنتدياتها، فإن هذا العصر هو عصر الرواية بامتياز. هناك اقبال متزايد على اقتناء الروايات وقرائتها، كما أن حفلات توقيع الروايات وتقديمها في انتشار. هناك احتفاء عالمي بالرواية عبر تخصيص الجوائز. بل إن هناك اهتماماً عالمياً بترجمة ونشر رواية العالم الثالث التي توفر مادة للبحث والدراسة مع ازدياد هجرة المثقفين من دول العالم الثالث الى الغرب، وهذه الشهية المتزايدة للاهتمام بالرواية قد وصلت الى ساحتنا الثقافية وانعكست ايجابيا في مجملها: هناك الكثير من الروايات التي تصدر شهريا في العالم العربي، وربما يكون بعضها متسرعاً من ناحية فنية أو لغوية، لكن هناك ازدياداً في طرح الروايات التي تستقطب اهتمام النقاد والكتاب. وقد سبق أن قلت إن الرواية أصبحت ديوان العرب المعاصر، كما أن هناك شهية نهمة من الناشرين تجاه الرواية. أعتقد أن حجم الازمات والاغتراب الذي يحس به الانسان العربي وانتشار المشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والارتداد الحضاري اصبحت جميعها مثل طوفان يكاد يودي بمستقبل العالم العربي، مما يفتح شهية الكتاب على كتابة الرواية لتكون شاهدة على العصر، ووثيقة ادانة له، بعد أن شهدنا تراجعا في دور الكاتب الايديولوجي، الذي يجعل من النضال الذاتي مقدماً على الابداع. صارت الرواية فضاءً لنضال الفكر والابداع في زمن انكسار الحلم العربي.

• ما رأيك بما يقال في المشهد الثقافي العربي من أنك لا تستطيع كتابة قصة قصيرة جيدة من دون أن يكون لديك شيء تقوله من غير تقنيات القصة؟

ــــ اتفق معك الى حد كبير في هذه المقولة، ولكننا نرى الان أن هناك كتابات كثيرة تقوم على تقنيات القصة المعاصرة وأساليب السرد وفتح المجال للتجريب شكلا ومضموناً، من دون أن تشعر أن هناك عمقاً تأملياً فلسفياً متقدما على صعيد المضامين والقضايا المطروحة. ويبدو ان الرغبة المفرطة في ادهاش القارئ بفنون اللغة والتهويمات الجمالية لا تزال تأخذ كثيرا من اهتمام بعض كتاب القصة العرب. أكتب القصة مستمدا طاقة وفضاء من الاشياء من حولي، أو من الرغبة في توظيف تقنيات القص في الجمع بين جمالية المضمون الانساني وجمالية السرد بلغة أنيقة تعتبر أن للقصة عالما فكريا وحسياً يوازي ما تجده في اللوحة الفنية. بعض القراء تأخذهم اللغة المحلقة في تشكيلات عاطفية وبصرية من دون أن يكون لهذه الكتابات من التصاق بواقعهم، ربما بحثاً عن اشباع حاجة الانسان للعاطفة والجمال في بلادنا، حيث تتسم الحياة فيها بالجفاف الروحي والعاطفي. واذاً لا بد من الاثنين معاً، فليس بالمضمون وحده تحيا القصة، وليس بالصدق في نقل الواقع. قال الكاتب الاميركي وليم فوكنر «إن الكاتب لا يستطيع أن يحكي الحقيقة ولهذا نسمي ما نكتبه قصة!»، لا بد من أن تتعاطف مع أبطالك وأن تراعي ذائقة القارئ كي تفتح لك ابواب اللغة.

فضاء أقل
• هل صحيح أن القصة لا تتحمل أن تعالج عدداً من القضايا لعدد من الشخصيات عبر أجيال مختلفة، لأنها لو فعلت ذلك فلن تكون سوى سرد لأحداث متتابعة؟

ــــ بالتأكيد ان فضاء القصة أصغر من فضاء الرواية، ولن تتمكن القصة من تقديم قضايا التغير والتطور الاجتماعي عبر أزمان مختلفة، ولكن القصة تحتمل ولا بد لها من توظيف الزمن وتداعي الذكريات وتجارب الحياة في الطفولة، واقامة المفارقات والتناقضات التي تعد أسلوبا ضروريا لعكس تناقضات حياتنا. لا أميل الى القصة القصيرة جدا أو الومضة، لأنني أعتبر ان اللحظة الراهنة لها انعكاسات وامتدادات واختزالها الى هذا الحد هو برغم براعته اللغوية اختصار مبتسر، وأجد أن تقديم بعض تفاصيل الحياة اليومية وتأثير المكان وصوره الحية في الذاكرة، وماضي الشخصيات تغني القصة كثيراً. أميل الى الحركة وتوظيف حالات المكان والطبيعة ونقل هواجس النفس الانسانية الداخلية في القصة وتقديم عالم مكثف من تفاعل الشخصيات والاحداث أكثر من مجرد تقديم صور ثابتة.

التحول من القصة القصيرة إلى الرواية
• بماذا تفسر تحول بعض الكتاب العرب من كتابة القصة القصيرة الى الرواية، ومن هولاء أحمد خيري سعيد، ومحمود طاهر لاشين، ومحمود تيمور، ويحيى حقي؟

ــــ أود أن أضيف الى قائمة الاسماء المذكورة عميد القصة العربية يوسف الشاروني الذي كتب رواية يتيمة «الغرق» في عام 2006 حول مأساة العبارة المصرية المحروسة في عام 1991 بعد أن راهنّا طويلا أنه سيبقى الاب الروحي للقصة في العالم العربي، ومن الساحة الاردنية، هناك الكاتب الصحفي المخضرم والقاص محمود الريماوي الذي لم يستطع مقاومة اغراء الرواية وخاصة في عصر الجوائز، فكتب رواية «من يؤنس السيدة»!

لا أخفيك أن الكثيرين من أصدقائي سألوني السؤال نفسه، وقالوا ألم تفكر بكتابة الرواية؟ بالطبع، تخامرني الرغبة في الشروع في كتابة الرواية. ولكني أشعر بأني أريد أن أقدم المزيد في فضاء القصة، لأنني أشعر بأنني اذا دخلت عالم الرواية، فلربما لن أخرج منه مرة أخرى الى القصة! القضية ليست مجرد اختيار نظري وحسب. كما قلت فإن هذا العصر هو عصر الرواية، يغريك أن تلحق به وأنت تشاهد عزوفاً عن القصة القصيرة. كما أن الرواية عالم متكامل تستطيع أن تضمنه توجهاتك الفكرية وعصيانك الاجتماعي وتمردك على النمط السائد، وأن تخوض من خلالها حروبك، وأن تواجه الكثير من القيم الثقافية المتخلفة التي ما زالت تعيق الانسان العربي عن ادراك تحدي العصر الذي لا يمكن قهره سوى بالعلم والعقلانية والموضوعية والشك والتطوير وفوق ذلك كله الاطار الانساني المنفتح على الثقافات الاخرى. القصة فشة خلق، أما الرواية فساحة حرب تقرر المصير!

للاطلاع على الحوار في الصحيفة يرجى الضغط على:
رابط الصفحة بموقع الصحيفة

لتحميل الصفحة الكاملة وقراءتها يرجى الضغط ( مع الانتظار قليلا ليتم تحميل الصفحة) على:
 رابط الصفحة الكاملة

الجمعة، مايو 21

"المصلحون" لبول هاردنغ.. ولجان التحكيم العربية




 

فازت بجائزة بوليتزر للسرد للعام 2010
"المصلحون" لبول هاردنغ.. ولجان التحكيم في المسابقات العربية

اياد ع. نصار

فازت رواية قصيرة "نوفيلا" تتألف من 191 صفحة بعنوان "المصلحون" Tinkers، وهي الرواية الاولى لقارع نحاسيات كان يعمل مع فرقة روك موسيقية تسمى "شقة المياه الباردة"، بجائزة بوليتزر للسرد للعام 2010. نشرت الرواية مطبعة صغيرة شبه مجهولة تدعى دار بيلفو، وهي ناشر حديث العهد لا تعمل على أسس ربحية، ومرتبطة بمستشفى بيلفو في مدينة نيويورك. تأسست دار النشر هذه على اعتبارها جزءاً من مستشفى بيلفو للامراض النفسية لطباعة الكتب الطبية، وتقع ضمن مبنى كلية الطب بجامعة نيويورك. ولكن السيدة القائمة على ادارتها أخذت على عاتقها طباعة بعض الكتب القصصية التي تتناول مسائل نفسية أو حالات مرضية. وقد مرّر لها ناشر من معارفها هذه الرواية كونه لا ينشر مثل هذه الاعمال. لم يبع من الرواية منذ صدورها في شهر كانون الثاني من العام الماضي وحتى التاريخ الذي سبق الاعلان عن فوزها سوى خمسة عشر ألف نسخة، وهي كمية قليلة جدا بمقاييس دور النشر العالمية المعروفة. ولا يتوقف مسلسل المفاجآت عند هذا الحد؛ فقد أصيب المؤلف بالدهشة عندما سمع بخبر فوزها، ولم يصدق عينيه، فبقي ينظر الى موقع الجائزة الذي أعلن عن فوزه، ويعيد تحديث الصفحة ليتأكد! وإذا كان هذا غير كاف لاثارة العجب، فقد أفاد المؤلف بأنه احتفظ بها في درج مكتبه لمدة ثلاث سنوات، وحينما أراد نشرها لم يجد أحدا يشتريها أو يهتم بها!


يبرز فوز رواية "المصلحون" أهمية دور النقد والناقد في تسليط الضوء على الرواية التي حظيت باهتمام عدد من النقاد في الصحف والمجلات مثل النيويوركر ولوس انجليس تايمز وبوسطن غلوب. وقد بدأت الحكاية عندما أهدت الناشرة نسخة من الرواية الى محرر زاوية اسبوعية تهتم في أخبار النشر والناشرين، فقدّم بدوره مراجعة نقدية حولها. وفي الوقت ذاته اشترى صاحب مكتبة خمس نسخ منها، وقدم إحداها الى محرر يدعى جون فريمان، والذي عدها أهم كتاب صدر خلال العام. وهكذا لم يكن فوز الرواية نتيجة حملات دعائية أو حفلة توقيع كتاب، أو علاقات صحفية عامة، أو تكريس صفحة على الشبكة المعلوماتية لاشهارها. لم يكن السبب أياً من هذه، وانما كان اهتمام عدد قليل من الناس لا يزيدون عن عدد أصابع اليدين بها، والذين وجدوا فيها نصاً غنائياً غنياً بلغته وأفكاره. وتساءلت فعلاً، هل يمكن أن يحدث هذا في مسابقات القصة والرواية العربية؟ أحببت أن أضع هذه الحكاية أمام لجان التحكيم العربية لعلها تجد فيها حكمة!


أما المؤلف بول هاردنغ Paul Harding، والبالغ من العمر اثنين وأربعين عاماً، والذي أصبح مشهوراً بين ليلة وضحاها، فقد خامرته الشكوك في مرحلة ما نتيجة إعراض الناشرين عن كتاباته. كان هاردنغ يعيش على مدفوعات الضمان ضد البطالة، ولم يكن هناك من دخل سوى راتب زوجته التي تعمل مدرسة في مدرسة ثانوية عندما اتصلت به الناشرة، ووافقت أن تعطيه الف دولار وأن تطبع ثلاثة آلاف وخمسمائة نسخة كبداية. كانت لحظة سرور لا توصف بالنسبة له! وفيما بعد عاد المؤلف للتدريس ضمن برنامج الكتابة لطلبة اللغة الانجليزية في جامعة أيوا. وبعد فوزه بالجائزة، تعاقدت معه دار راندوم هاوس الشهيرة للحصول على حقوق نشر وبيع كتابيه القادمين. هل يغامر الناشرون العرب بعقد مثل هذه الاتفاقيات مقدماً؟!


تعد الرواية كما قالت لجنة التحكيم احتفاءً قويا بالحياة في ولاية نيوانجلند على الشاطيء الشرقي للولايات المتحدة، وتصور الايام الاخيرة لأب يصارع الموت ومن حوله ابنه، حيث يتأملان في معنى حياتيهما اللتين بقيا أسيرين لهما. وتقدم الرواية نظرة جديدة لرؤية العالم والموت. وتمتاز بقدرة المؤلف على تمثيل الاحاسيس والمشاعر والافكار وما يدور في العالم الجواني للشخصيات من خلال صور واستعارات نابضة بالحياة.


وصل المرحلة النهائية من المسابقة الى جانب هذه الرواية، مجموعة قصصية بعنوان "الحب بين القردة الصغار" لمؤلفتها ليديا مليت، وتبرز مواجهة لا تنسى بين شخص مشهور وحيوان، مما يعزز المفارقة في مسعى الانسان الذي يتوق الى تحقيق أمور عظيمة في حياته، بينما ينشغل بمطاردة اهتمامات تافهة ليست ذات قيمة. كما تأهلت أيضا للمرحلة النهائية مجموعة قصصية بعنوان "في غرف أخرى، عجائب أخرى" للباكستاني دانيال معين الدين، وتمتاز بأسلوب جميل وفريد، وتعرف القاريء الغربي بأحلام ومآسي عدد من الشخصيات التي تعيش في باكستان.


ذكرت إيريكا غولدمان ناشرة الرواية بأنها عندما قرأت مخطوطها ذات ليلة، فقد تأثرت بها كثيرا الى درجة البكاء. وقالت: "إنها شعر في هيئة نثر". وقد أعطت الناشرة الرواية الى أحد أصدقائها ليقرأها ويعطيها رأيه فيها. فتأثر بها وأخبرها إنه رأى في هاردينغ خليفة لجون أبدايك - القاص والروائي الامريكي المشهور. أجمع عدد ممن قرؤوا الرواية أنها شدتهم باسلوبها المؤثر منذ لحظة القراءة الاولى حتى نهايتها. يكتب هاردنغ بلغة مليئة بالشاعرية حول أشياء يومية، ولا يمل من وصف أدق التفاصيل في حياة الانسان العادي. وقد قدم رواية ذات بعد روحاني ونفسي ميتافيزيقي.


يشير عنوان الرواية الى الحرفيين الذين يتولون اصلاح الالات والادوات حينما تتلف أو تتعطل عن الحركة، وتحكي قصة والد يعيش أيامه الاخيرة. ومع تداعي الذكريات، فإنه يرحل بعيداً في الماضي، حيث يلتحق بأبيه ويتخيل أنه يعيش شبابه مرة أخرى. تعد الرواية مرثاة تأملية تدور أحداثها حول الحب، والفقدان، وقوة الطبيعة الجميلة القاسية.


تمثل الرواية في بنيتها التي توظف أسلوب التداعيات والهلوسات الاقوال الاخيرة التي يبوح بها أب مريض على وشك الموت وقد أحاطت به عائلته. تبدو الرواية للوهلة الاولى سهلة وبسيطة، ولكننا نكتشف بعد ذلك ابعادها وفنياتها الجمالية. يعمل البطل، واسمه جورج واشنطن كروسبي، بمهنة تصليح الساعات بعد أن تقاعد من مهنة التدريس والارشاد. يتذكر جورج طفولته المضطربة كونه الابن الاكبر لأب مصاب بالصرع ويعمل بائعاً متجولاً يدعى هوارد. وحينما يتولى صوت هوارد السرد، فإنه يتذكر حياة أبيه -هو أيضاً- من قبل، واصابته بالصرع العصبي. يبدأ هوارد أيضاً بالمعاناة، بعد وفاة والده نتيجة اصابته بنوبات صرع، وتسعى زوجته لأن تضعه في مصحة عقلية. لكنه يفسد خططها ويتركها وأولادها الاربعة، ويتزوج مرة أخرى، ويبدأ حياة جديدة. أما جورج الذي حاول الهروب في اليوم الذي اختفى فيه والده، فيرقد على السرير في غرفة المعيشة ومن حوله عائلته، كما تبدأ الرواية.


يتميز الوصف المتعلق بمرض الاب والحالات التي ألمت به قبل اصابته بنوبة صرع بالبراعة والانسيابية والبساطة، ويعكس مشاهد الكآبة التي يرزح جورح تحت تأثيرها. إن البطل الحقيقي في الرواية هو لغة المؤلف المذهلة في الوصف، سواء وصف الساعات وأجزائها وأنواعها، أو وصف مشاهد من الطبيعة، أو وصف جوانب الشخصيات في الرواية.


تفتتح الرواية بمشهد الاب جورج وهو على فراش الموت في غرفة المعيشة في بيته، وقد أحاطت به الساعات القديمة التي أصلحها. يرى جورج أن جدران الغرفة تتداعى من حوله، والشبابيك تخرج من مكانها، والسقف ينهار، ويقع الركام فوق رأسه، محطماً معه أشياء تلخص كل سني حياته: قصاصات صحف، صور قديمة، معاطف صوف، أدوات صدئة، وساعات نحاسية قديمة. ثم لا يلبث أن يتخيل أن غيوماً من السماء تقع عليه، وتتبعها النجوم، حتى يغطيه الليل كالكفن. وعندها يبدأ جورج بالهذيان، في نوبات تستحضر صور الموت. ورغم أنه مصلح للساعات، إلا أنه قد أصبح الان حراً من قيود الزمن والذاكرة المألوفة، كي يلتحق بوالده الميت الذي كان بائع متجولاً ومصاباً بالصرع العصبي، والذي انقطعت أخباره قبل سبعة عقود. وفي عودته الى ذكريات وآلام طفولته البائسة الفقيرة، يستعيد عالماً يبدو غير مبالٍ به، بل يبعث فيه الاحساس بالقلق والخوف.



"المصلحون" رواية حول الوعي وتمزق الهوية بين جيل وآخر. وتتحدث عن تأثير عامل الزمن في حياتنا، وحتمية الموت. يعكس حديث الراويان ثلاثة أجيال من التيه والفقدان وغياب التواصل بين الآباء والابناء. "صباحاتك الباردة مليئة بوجع القلب حول حقيقة أنه بالرغم أننا لا نشعر براحة في هذا العالم، إلا أنه هو كل ما لدينا. إنه ملكنا لكنه مليء بالصراع... وكما يشق الفأس الخشب، ابتهج لأن الالم في قلبك والحيرة في روحك تعني أنك ما زلت حياً، ما زلت انساناً، ما زلت قادراً على رؤية جمال العالم، على الرغم أنك لم تفعل شيئاً لتستحقه. وحينما تمقت الالم في قلبك فتذكر: لسوف تموت وتدفن قريباً".


يوظف الكاتب تقنية الزمن والساعات حينما يعود الاب بالذكريات الى الماضي، ليبقى يعيدنا الى الزمن الحاضر، واستخدام مؤقت الزمن يبقى يذكر القاريء بكم بقي من الساعات على وفاته. يلعب الزمن دورا مهما في الرواية من خلال ابعاده الفلسفية والرمزية والاسلوبية وذلك من خلال التنقل المفاجيء بين صيغ الزمن المختلفة. تطرح الرواية بأسلوب انساني رقيق مواضيع الخيانة والمرارة والاذلال في دراما سوريالية. "لقد اختفى البيت. توقفت كاثلين عن المشي ونظرت حواليها. وتحركت الغيوم التي لونت الفجر الرصاصي، وأصبحت فوق رأسها مثل غطاء من الحجر. تناثرت ذرور الثلج في الريح. وقفت كاثلين في المكان الصحيح".


أشار بعض القراء أن الرواية لم تراع أصول الترقيم كما ينبغي، فجاءت علاماته على نحو فظيع. كما أن هناك تكراراً لبعض العبارات فيها، واستخدام كلمات واسماء متخصصة فيما يتعلق بالساعات واجزائها مما لا يعرفها غير الساعاتي! وأخيراً وكما يقول المثل المصري العامي: "الحظ لمّا يواتي يخلي الاعمى ساعاتي"!

* نشرت المقالة في الملحق الثقافي لجريدة الدستور بتاريخ 21/5/2010.

رابط المقالة  بموقع الجريدة

رابط الصفحة الكاملة






الأربعاء، مايو 19

انشغالات اياد نصار

اياد نصار : نكتب ما نسمع خوفاً من أن نغرد خارج السرب!

إعداد: موسى حوامدة- نشرت في صفحة الثقافة في جريدة الدستور 19/5/2010


اياد نصار قاص وناقد أردني وعضو رابطة الكتاب الاردنيين، درس الأدب الإنجليزي والهندسة المعمارية لكنه تركها في السنة الرابعة ليدرس عشقه القديم المتمثل في الأدب. يهتم بالقصة والرواية في الأدب العربي والآداب العالمية ، ويكتب بنشاط في النقد حولهما، صدرت له مجموعة قصصية أولى عام 2008 بعنوان "أشياء في الذاكرة"، ومجموعة ثانية بعنوان "قليل من الحظ" في عام 2009.

ماذا تقرأ حالياً؟
ـ شرعت في قراءة رواية "نساء العتبات" للقاصة والروائية العراقية هدية حسين التي تمثل شهادة تاريخية على غزو العراق وسقوط بغداد ، رواية تفيض بصور الخيبة والموت والخراب ، لتطرح مأساة الحرب التي تدمر النسيج الاجتماعي وتهدم الاحلام وتفتح الباب على قارعة النفي والغربة ، وتبرز مأساة العراق حيث يتعسكر كل شيء. الرواية تعبير إنساني طافح بالحزن عن وطأة الحرب على المرأة التي تدفع الثمن دائماً.

هل تشاهد السينما أو المسرح؟
ـ بلا شك ، فالمسرح فن الإنسان الأول الذي لا يخبو بريقه. وأحب السينما وأعد نفسي من المتابعين لها. برغم ما شاهدته من أفلام حصدت الجوائز عبر السنين ، إلا أن أكثر فيلم أثر فيّ ، وقد شاهدته مرارا بفضل جمال قصته الانسانية التي ابدعت ميريل ستريب في تجسيدها هو "خارج أفريقيا" لسيدني بولاك. الفيلم مأخوذ من مذكرات امرأة دنماركية عاشت قصة حب مأساوية في كينيا في فترة استعمار أفريقيا. تضفي موسيقاه التصويرية ومشاهده أجواءً ساحرة عليه.

ما الذي يشدّك في المحطات الفضائيّة؟
ـ مغرم بمشاهدة القنوات التي لا يشاهدها الكثيرون. قنوات مدن العالم والتاريخ والجغرافيا. تأسرني متعة الاطلاع على ثقافات الشعوب وتاريخ الحضارات وأحب البرامج التي تتناول هذه المواضيع لأنها تثير نزعة التأمل في البحث عن أسباب نهضة جديدة تقوم على العلم والفكر والتفاعل الانساني بعيداً عن التطرف والشوفينية والماضوية التي تبحث عن الخلاص في القديم.

ماذا تكتب هذه الايام؟
ـ أجدني موزعاً بين حنيني إلى القصة القصيرة وبين مقارباتي النقدية، وخاصة حول آخر آفاق الإبداع السردي العالمي. هناك الكثير مما يمكن أن يستفيده الأديب من الاطلاع على أساليب الرواية والقصة لما لهما من تاريخ عريق في الغرب ومع ذلك يرحب بالتجريب دائماً.

ما الذي أثار استفزازك مؤخراً؟
ـ يستفزني الفكر المتقوقع على الذات والذي لا يرى من العالم إلا ثقب الدم. تثيرني حملات منع الكتب ومصادرتها وخاصة التي وراءها جهات تعتقد أنها تستطيع أن تصادر الابداع الخارج على سلطتها، بل تريد أن تصادر أيضاً أدبنا العربي القديم وتحرم منه أجيال الحاضر والمستقبل.

حالة ثقافية لم ترق لك؟
ـ أن يسارع المثقفون والكتاب والنقاد الى إصدار أحكام مسبقة على الاعمال الابداعية قبل قراءتها اعتمادا على ما يقال في جلسات الثرثرة. صار الأمر عجيباً في أننا نقول أو نكتب ما نسمع وليس نقرأ خوفاً من أن نغرد خارج السرب!

حالة أو موقف أعجبك؟
ـ موقف شارل ديغول حينما وقف مدافعا عن مفكر فرنسا الكبير جان بول سارتر أمام حملات التشكيك والاتهام، فقال: من أراد أن يحاكم جان بول سارتر ، فعليه أن يحاكم فرنسا.

ما هو آخر نشاط ابداعي حضرته؟
ـ حفل توقيع رواية "لا ملائكة في رام الله" للكاتبة الفلسطينية الشابة ايناس عبدالله ، الذي أقيم في منتدى الدستور الثقافي وتكلم فيه نخبة من الأدباء.

ما هي انشغالاتك الاجتماعية؟
ـ الانشغالات الاجتماعية هي لزوم ما لا يلزم، لا تستطيع أن تعيش معها ولا أن تعيش بدونها، تهرب منها لتجد أن الوسط الادبي يعيش أعراضها!

فرصة ثمينة ضاعت منك؟
ـ ضاعت مني فرص كثيرة لكن لا أعدها ثمينة! وأخشى ألا تصل الثمينة فلا أعرف طعم ضياع الفرص الثمينة! ضاعت مني فرصة غير ثمينة في أن أصبح مهندسا معماريا!

نصيحة قُدّمتْ لك ولم تأخذ بها؟
ـ نصحني عدد من أصدقائي مثل الروائي جمال ناجي والقاص العراقي عبد الستار ناصر بأن أكتب الرواية لأنني أمتلك نفسا روائيا، وما زلت غير آخذ بها، تجذبني الرواية، ولكنني أود أن أقدم مجموعة قصصية ثالثة وربما رابعة قبل أن اقتحم الرواية، أشعر أنني إذا باشرت الرواية لن أعود للقصة، لعله نوع من الحب الوفي!

ما الذي يشغل بالك مستقبلاً؟
ـ يدور في ذهني هاجس كبير يتراوح بين الحلم والقلق، ويتمثل في الرغبة في تقديم مشروع نقدي يستفيد من قراءاتي في المناهج النقدية الغربية المعاصرة. أعتقد أن تطور النقد في أية أمة هو دليل وعيها بأهمية الافكار في التغيير الاجتماعي، والتزامها بقيمة الانسان الذي يصنع الفكر.

هل لديك انشغالات وجدانية؟
ـ أكثر ما يشغلني ولا أنفك عن التفكير به هو الحلم بتطور المجتمع العربي وانتقاله من مجتمع مأخوذ بقيم تقليدية ومنظومة فكرية تنتمي للميتافيزيقيا ولا يساوره الشك في نقدها ، بل يبادر إلى إعادة تغليفها في رد على التحدي الحضاري. من دون ولادة عصر تنوير يؤمن بإعطاء الفرصة للافكار الجديدة، سنبقى نسير عكس التاريخ إلى أن تتسع الشقة بيننا وبين قدرتنا على التكيف، أو أن نعاني من كوارث نرى الآن ارهاصاتها.

ما الذي ينقص الثقافة العربية؟
ـ ينقصها مفكرون وكتاب وفنانون يؤمنون بقيمة المشاريع الجادة مثل محمد عابد الجابري وفؤاد زكريا وحسين مروة وسيد درويش وعبد الرحمن منيف ومحمود مختار وفيروز ، ومستعدون للتضحية في سبيل ولادة الفكر الجديد ، الذي يحاكم الاشياء من خلال قدرته على تقديم حلول تركز على تطوير المضمون أكثر من الشكل.

ما الذي ينقصنا في الأردن على الصعيد الثقافي؟
ـ تشجيع الانتاج الثقافي بمختلف أطيافه الفكرية ، وتهيئة المناخ له ، وتعديل القوانين التي تضع قفازا حريريا ولكنها متأهبة دائما لمنع الاعمال الفكرية غير التقليدية ، أو تلك التي يتم التحريض ضدها.

رابط الصفحة

الصفحة الكاملة





الجمعة، مايو 7

بين ادوارد سعيد وفخري صالح.. دفاع عن الأب الروحي!


بين ادوارد سعيد وفخري صالح: دفاع عن الاب الروحي!

بقلم: اياد ع. نصار

الجزء الاول:
في حفل توقيع كتابه المهم والقيّم "ادوارد سعيد: دراسة وترجمات" الذي جرى في مركز الحسين الثقافي التابع لأمانة عمان الكبرى في أواخر شهر كانون الثاني الفائت، والذي قدّمه فيه الروائي جمال ناجي، وشارك فيه الناقد زياد ابو لبن الذي ألقى ورقة حول كتابه الاخر الذي صدر في الوقت نفسه "في الرواية العربية الجديدة"، والناقد الدكتور غسان عبد الخالق الذي ألقى ورقة حول كتابه قيد الدراسة ، قال الناقد فخري صالح إن "كتابات ادوارد سعيد صارت قوتاً يومياً له منذ أكثر من عشرين عاما". بل إنه استهل حديثه عنه ،يومها، بالقول إن ادوارد سعيد صار مثل واحد من افراد العائلة الذي يعيش معهم، وصار الاب الروحي له، وهو ما يرد ذكره حرفياً أيضا في الكتاب. وجدير أن يشاد بالجهود الكبيرة التي بذلها الناقد فخري صالح في اعداد هذا الكتاب بين البحث والدراسة والترجمة والمقارنة بلغة نقدية ممتعة تشد انتباه القاريء للمتابعة حتى النهاية.


ذكّرني ما كتبه فخري صالح، في كتابه عن لقاء ادوارد سعيد، بتلك الرسالة، التي وصلتني ذات يوم - وأنا ما زلت طالبا أدرس الادب الانجليزي في جامعة اليرموك- من ادوارد سعيد. كنت على مشارف التخرج في العام 1989 حينما أخذت أراسل بعض الجامعات الغربية لاكمال الدراسة العليا فيها. وأول ما خطر لي هو جامعة كولومبيا التي كان يعمل فيها إدوارد أستاذا للادب المقارن. كتبت له رسالة اشرح فيها رغبتي في الدراسة في الجامعة العريقة، ولكن قلة ذات اليد منعتني من تحقيق الحلم في اكمال الدراسة في بريطانيا أو الولايات المتحدة، وبين سطورها ضمّنت رغبتي الخفية في الحصول على بعثة جامعية، طامعاً في استثمار الصلة الفلسطينية بيننا. وجاءتني رسالة قصيرة منه يشكرني على رسالتي، ويدعوني لمراسلة مكتب القبول في الجامعة. وبالطبع، لم يفاجئني الرد، بل سعدت به كثيراً واحتفظت به بين أوراقي، فمكانة ادوارد سعيد معروفة، وأنا لم أكن سوى طالب متحمس كي يسعى لمساعدتي، وأظنه كان يتلقى مثل رسالتي الكثير.


ذكّرني بهذه الحادثة ما ذكره الاستاذ فخري في الكتاب من أنه التقى ادوارد سعيد مرتين: واحدة في العام 1984، وواحدة في العام 1991. في المرة الاولى لم يتحدث معه، فقد بقي ينظر اليه واقفاً من بعيد، هياباً من الاقتراب منه، وفي الثانية لم يكن سوى لقاء عابر في ردهة فندق الاردن حيث عرف صدفة أنه ينزل فيه من النحاتة منى السعودي حينما كان يجري حواراً مع الروائي المغربي الطاهر بن جلون. فذهب للسلام عليه، وعرّفه ادوارد في هذا اللقاء على عائلته: زوجته مريم، وابنه وديع، وإبنته نجلا. وما أستشفه بشكل واضح أنه، عملياً، لم يكن هناك اتصال أو حوار أو مكاتبات بينهما، وأنا أستغرب أن شغف فخري صالح بسيرة ادوارد سعيد شخصياً، وبفكره المتقد وسعة رؤيته منذ العام 1991 مروراً بالعام 2000 حينما كتب كتابه "دفاعا عن ادوارد سعيد" وحتى العام 2003 الذي توفي فيه، لم يحدث أي نوع من التواصل الفكري المباشر بينهما، وإنما بقي الناقد فخري صالح في عزلته منكباً على قراءة كتب ادوارد وأبحاثه، وما كان يُكتب عنه بين تأليب أو تأييد. وساعده في ذلك قيام محمود درويش بنشر ترجماته وأبحاثه عنه في مجلة الكرمل التي كان يرأس تحريرها.


لعب محمود درويش دوراً في تأثر فخري بادوارد سعيد مثلما كان لترجمات وقراءات فخري في اعمال إدوارد تأثير في شعر درويش. فعلى سبيل المثال، يبدو لي أن درويش اطلع على كتاب "بعد السماء الاخيرة: حيوات فلسطينية" الذي اصدره إدوارد في العام 1986. فنراه في ديوانه "ورد أقل" الذي أصدره درويش في العام نفسه يذكر عبارة (السماء الاخيرة) في قصيدة "تضيق بنا الارض": إلى أين نذهب بعد الحدود الأخيرة؟‏ أين تطير العصافير بعد السماء الأخيرة؟ أين تنام النباتات بعد الهواء الأخير؟‏ وكان هذا الجزء من القصيدة هو مفتتح الفصل الذي كتبه فخري بعنوان "ادوارد سعيد وصورة الفلسطينيين" وهو من الفصول الممتعة الشيقة التي تتحدث عن أسلوب فريد لدى ادوارد في تعريف العالم بعذابات الفلسطينيين.


يبدي فخري صالح إعجابه الشديد بفكر ادوارد سعيد بل تماهيه معه، الى حد أنه صار مصدرا معرفيا واطارا فكريا نقديا يستند اليه في نظرته وتحليله للنصوص، وفي صوغ مواقفه من مختلف مسائل الحياة. ويؤكد أن كتابات ادوارد أصبحت رفيقا دائما له، ودفعته الى أن يتتبع معظم ما ألّف من كتب وما نشر من دراسات ومقالات، ومعظم ما كتب عنه. ولكن يدهشنا موقف فخري صالح الذي، برغم حضوره النقدي العربي البارز، وبرغم امتلاكه رصيداً نقدياً يتمثل في ما يزيد عن خمسة عشر كتاباً بين تأليف وترجمة وتحرير، والمئات من المقالات والابحاث والمشاركات في المؤتمرات والندوات، يذكر أنه لا جديد لديه يضيفه أمام فكر ادوارد سعيد، حيث يقول إن ادوارد سعيد "يجعل المرء يشعر بالعجز وعدم القدرة على الاضافة الى ما كتب..". يبدو فخري صالح لي، هنا، بموقف المعجب باستاذه وأبيه الروحي الذي لا يسعى الى نقد أفكاره أو مناقشتها او الاضافة اليها، بل يبقى يكتب دفاعاً عنها، لا من حيث انتهت، بل من حيث بدأت. وربما يشذ عن هذه القاعدة موقف وحيد لفخري صالح لا يتفق فيه مع موقف ادوارد السياسي الذي جاء في اطار عرضه لكتابه "غزة - أريحا: سلام أمريكي". فمعروف أن ادوارد سعيد لم يكن مؤيدا لاتفاق السلام الفلسطيني الاسرائيلي، وعدّ النظرة العربية والفلسطينية الى الموقف الامريكي محايداً وراعياً نزيهاً للوصول الى السلام "خرافة ايديولوجية". وهنا يبدي فخري نقده لموقف ادوارد حيث يفيد أنه، أي ادوارد، لم يكن قادرا على بلورة استراتيجية سياسية عملية بديلة مقنعة، وإن تشخيصه للواقع يبدو أكثر واقعية من الحلول التي يطرحها.


وعلى خلاف الكثيرين الذين يرون إدوارد ناقدا أدبياً مرموقاً، أو استاذاً للادب المقارن، أو متخصصا في الانثروبولوجيا، أو يرونه ذاك الاستاذ الفلسطيني الاكاديمي الذي أزعج بعض الدوائر اليهودية في الولايات المتحدة ، فإن نظرة فخري صالح فيها شيء من التقدم والاحاطة والنضوج. فهو يرى أن إدوارد ليس باحثا أكاديميا فلسطينيا يستغل وجوده في إحدى أعرق الجامعات لنشر مشروعه في الدفاع عن الحق الفلسطيني ببساطة، ولا يتلخص مشروعه في الدفاع عن ثقافة العرب وحضارتهم، بل يسعى الى تفكيك الفكر الغربي ونقد الخطاب الذي اخترع الاخر المتمثل في الشرقي والعربي والمسلم، ليميز نفسه، ولهذا فادوارد سعيد يرفض سياسات الهوية وصراعات الجغرافية او الارتباط بثقافة معينة، بل إنه مقيم بين الثقافات. يرى إدوارد أن دور المثقف يحتم عليه أن يرفض حروب الهويات أو التمترس وراء علاقات أو أفكار لم يخترها بحريته بل فرضت نفسها عليه، وأن يسعى من أجل نشر ثقافة انسانية ذات طابع ديمقراطي. والمثقف بحد ذاته، في نظر ادوارد، هو ذلك اللامنتمي او المنفي او المرتحل الذي يرى الواقع امرأ طارئا عارضا وليس طبيعيا حتميا، ولكن في اطار ايجابي يقول الحقيقة للسلطة بغض النظر عن موقفها.


وينقسم الكتاب الذي وضعه الناقد فخري صالح في 244 صفحة، وصدر عن الدار العربية للعلوم في بيروت الى جزئين أساسيين: الجزء الاول له ، والثاني لادوارد سعيد! فالصفحات المائة والعشر الاولى هي قراءات تعريفية تحليلية موجزة لكتب ادوارد سعيد أو للكتب التي كتبت عنه، حيث خصّ كل فصل فيه للحديث عن كتاب ليشرح من خلاله فكره وآراءه وسيرته الذاتية ومواقفه التي عبر عنها تجاه مختلف القضايا. وتقدم هذه الفصول ملامح المشروع الفكري لادوارد سعيد ، بالاضافة الى تأثيره ومكانته في الفكر الغربي كما عكس ذلك قيام عدد من النقاد والاكاديميين أمثال شيلي واليا، وفاليري كنيدي، وبيل آشكروفت وبال أهلوواليا بكتابة كتب عنه. وأما الجزء الثاني فاختار أن يقدم فيه ترجماته لمقالات مهمة مختارة يشير اليها كثيرا في الجزء الاول مثل "تمثيلات المثقف" و"أفكار حول الاسلوب الاخير" بالاضافة الى حوارين مستفيضين مع ادوارد.


خصص الكاتب فصلاً قصيراً في بداية الكتاب للتعريف بملامح المشروع الفكري لادوارد سعيد. ويُلاحظ مدى الثناء الذي يسبغه عليه حيث رأى فيه انعطافة فكرية عربية وغربية حاسمة على السواء، ورأى أنه لو قدر لهذه الموهبة الفذة أن تطول سيرتها لصنعت شيئا متميزا مختلفاً. ويبدو واضحاً، من خلال الثناء والاطراء الذي يبقى يتكرر بين دفتي الكتاب مدى اعجاب فخري بإدوارد سعيد مفكراً وناقداً.


ثم ينتقل للحديث، في الفصل التالي، عن ثلاثة من أهم كتبه التي لها علاقة عضوية ببعضها ألا وهي "الاستشراق" و"الثقافة والامبريالية" و"العالم والنص والناقد". كان الاستشراق Orientalism موضوعاً مهماً ومفصلياً وسبب شهرته في الشرق والغرب لما قام به من تفكيك الخطاب الاستشراقي الغربي الذي كان يهدف رغم علميته ورغمه اعجابه بسحر الشرق وغموضه وفطريته في نهاية المطاف الى السيطرة على الشرق. ويرى أن استشراق ادوارد سعيد مهد لظهور مناهج جديدة للنظر الى الثقافات الوطنية بعيدا عن مسلمات الفكر الغربي. ويرى أن إدوارد لم يهدف من كتابه المشهور أن يصحح الخطاب الاستشراقي، ولكن أن يفكك الانظمة الفكرية الداخلية لذلك الخطاب، حيث وسّع ادوارد نظرته لمفهوم الاستشراق بتأليفه كتاب "الثقافة والامبريالية" الذي يدعو فيه الى قراءة الارشيف الثقافي للمستعمِر والمستعمَر معاً في قراءة طباقية (متضادة) Contrapuntal Reading للتعرف على الثقافة الامبريالية خلال فترة الاستعمار والقوة المقاومة التي تصدت له في حينه.


كان ادوارد نفسه، وكما يرى الناقد فخري صالح، مثالا رائعا للمثقف حسب تعريفه، فهو برغم تخصصه الاكاديمي، لم يتوان عن زيادة وعي العالم بالقضية الفلسطينية. وهذا ما عاد وأكد عليه في كتابه التالي "تمثيلات المثقف" حيث طرح معنى المثقف ووظائفه بالاستناد الى تجربته الذاتية والرسالة التي يؤديها نحو المجتمع وهو قول الحقيقة للسلطة بغض النظر عن موقفها. وبهذا يتحول المثقف من مجرد باحث متخصص يسجن نفسه داخل تخصصه الى مفهوم سارتر لدور المثقف الملتزم الذي يؤمن بأنه يدافع عن رسالة فئة صامتة أو منسية، ولكنه المثقف اللامنتمي لهوية او حضارة ما، والمستقل عن السلطة وربما المنفي عنها. لقد تحرر ادوارد من اسار التخصص ومن النظر الى الامور نظرة الناقد التقني الذي لا يرى عموم الصورة. بل انتقد إدوارد هذا النوع من المثقف التقني الذي يبتلعه وحش التخصص والاحتراف والتكسب من المهنة في العالم المعاصر. أما النوع الاخر والذي يرى فخري صالح أن ادوارد سعيد يمثله فهو المثقف العام الذي يتابع ويؤيد قضية عامة ويتعاطف مع المثقفين المنفيين.


يؤكد فخري صالح أن إدوارد وجد في الفيلسوف الايطالي أنطونيو غرامشي النموذج الذي يمثل النوع الثاني من المثقف والذي سمّاه غرامشي بالعضوي. ويؤكد أن إدوارد أقرب في فلسفته الى آراء غرامشي في المقاومة وتحليل مبدأ هيمنة القوة منه الى ميشيل فوكو التي تتسم كتاباته بقدرية سوداوية لا تثق بقدرات البشر على تغيير واقعهم غير المرغوب فيه.

* اللوحة أعلاه للفنان التشكيلي الفلسطيني فوزي العمراني.
** نشرت المقالة أعلاه في الملحق الثقافي بجريدة الدستور الاردنية بتاريخ 30/4/2010. يرجى الضغط على الرابطين أدناه للاطلاع على المقالة في موقع الصحيفة.

رابط المقالة في صحيفة الدستور

رابط الصفحة الكاملة في صحيفة الدستور




السبت، مايو 1

بين ادوارد سعيد وفخري صالح.. دفاع عن الاب الروحي!

بين ادوارد سعيد وفخري صالح .. دفاع عن الاب الروحي!
بقلم: اياد ع. نصار



الجزء الثاني

يرى المؤلف أن إدوارد تأثر، كثيراً، بسيرة حياة البحار البولندي الذي جاب العالم على متن السفن البريطانية، وصار - في ما بعد - من أهم روائيي الادب الانجليزي. ووجد أن هناك ثيمة مشتركة بينهما لعلها كانت سبب انتباه ادوارد له ومن ثم اهتمامه به وكتابة أطروحته لنيل درجة الدكتوراة في جامعة هارفارد عنه، وكانت بعنوان "جوزيف كونراد ورواية السيرة الذاتية". وأغلب الظن أن إحساس ادوارد الذي عاش معه وظل يؤرقه حول النفي والاقتلاع من أرض فلسطين هو ما جذبه لجوزيف كونراد، ذلك الغريب الذي صارع لاثبات ذاته في الثقافة الانجليزية. كما يروي فخري صالح في هذا الفصل تفاصيل الحملة الصهيونية في بعض الصحف الامريكية والانجليزية التي بدأت صيف العام 1999 لتشويه صورة ادوارد سعيد واتهامه بتزوير سيرته.


يرى فخري صالح أن هدف الحملة كان التشويش على مشروع سيرة ادوارد الذاتية، التي أعلن عزمه على تأليفها. ولكن الهدف الابعد هو اسكات صوته الذي كان مدافعا عن الحق الفلسطيني في الدوائر الامريكية وفي وسائل الاعلام وفي المراكز الاكاديمية، ومحاولة إضعاف تأثيره بصفته المتحدث الأبرز بلسان الفلسطينيين في الغرب. والهدف الاخطر هو التشكيك في قصة المعاناة الفلسطينية برمتها، والتي خلّفتها النكبة من خلال اظهار ان ادوارد زوّر تاريخه. فعائلته - كما يقولون - ارتحلت عن فلسطين مبكراً (قبل العام 1948) وكأنما هذا هو حال الفلسطينيين الذي يدّعون آلام التشرد. ولكنه يرى ان كل هذه المحاولات التي استمرت ربع قرن لم تُجدِ نفعاً. وهنا تكمن أهمية سيرة ادوارد سعيد الذاتية، التي تفند الكثير من المزاعم التي قيلت حوله. وإذا كان إدوارد لم يضع كتابه "خارج المكان" من أجل الرد على الحملة، حيث كتبه خلال الفترة ما بين 1994 - 1998 ، بعد أن عرف عن اصابته بسرطان الدم (اللوكيميا) إلا أن الكتاب جاء في وقته. ويسجل ادوارد - في هذا الكتاب - وقائع حياته اليومية عبرة فترة زمنية طويلة أراد أن يبرز فيها تفاصيل المكان وتأثير الشخصيات في العائلة التي لعبت دورا في تشكيل وعيه مبكرا على حدود الحلم والوطن الذي ضاع.

أما كتاب ادوارد عن "فرويد وغير الاوروبيين" فقد أراد أن يبين فيه أن فرويد وقع أسير المركزية الغربية التي رأت أن اليهود جزء من سياق الحضارة الغربية ، بدلاً من تراثهم المشرقي، وهم- بالتالي - روجوا لهذه الرواية لأنها تخدم أغراضهم، خاصةً بعد بروز الاضطهاد الديني لليهود في شرق أوروبا. وأنه كان يعاني - عندما وضع أسس التحليل النفسي - من حالة الخوف والعصابية لما كان يجري لليهود في المانيا والنمسا، مما جعله يدرس ويحلل الوساوس والاضطرابات. ويطرح ادوارد سعيد مفهوم "الاسلوب الاخير" من خلال دراسته للاعمال الاخيرة لفرويد ومقارنتها بأعمال بيتهوفن الموسيقية الاخيرة. يرى إدوارد أن كثيرا من الكتاب والادباء والفنانين والموهوبين قد تأثروا في أعمالهم الاخيرة بمفهوم الموت، حيث ظهرت عليها مؤثرات وانحناءات تختلف عن أعمالهم السابقة، لكأنما يستشعر المبدع النهاية وتؤثر في وعيه – بوصفها هاجساً كبيراً - تصبح معه أعماله متوجهة نحو التفكير بالمرحلة الاخيرة.

يرى المؤلف أن أهمية كتاب "الانسانية والنقد الديمقراطي" تنبع من رغبة ادوارد سعيد في تحرير المذاهب الفكرية الغربية من المركزية الاوروبية التي تعطي السيادة للرجل الابيض، وفي اعطائها بعداً انسانياً كونياً يعترف بالثقافات الانسانية غير الغربية، فوضع كتابه هذا ليشرح فيها "مذهبه الانساني" و"الديمقراطية". ويقترح صورة أخرى للمذهب الانساني الغربي. بقي ادوارد سعيد مؤمنا بفكرة النزعة الانسانية والدعوة الى العدالة والمساواة والتحرر والتعلم برغم ما يثار ضدها وبرغم استغلال هذا المذهب من قبل الدوائر المركزية الاوروبية.

وعن علاقة ادوارد سعيد بتيارات ما بعد الحداثة والنقد والتاريخ، يتحدث المؤلف، في عجالة أيضاً، عن كتاب الباحث والناقد الهندي شيلي واليا "ادوارد سعيد وكتابة التاريخ" الذي يتضمن موقف إدوارد من تيارات ما بعد الحداثة كالبنيوية وما بعدها. فنرى انسجاماً ما بين نظرة إدوارد للمثقف العام، وما بين موقفه النقدي الذي تجلى في دراسة سياقات النصوص التاريخية والسياسية ودوافعها النظرية والعملية التي أدت الى انتاج النصوص، وأنه لم يكتف بقراءة النصوص الموضعية، ودراسة النصية والتناص كما فعل النقاد أتباع جاك دريدا الذي رأى أنهم أصبحوا أسرى للنص وحده.

لا بد لي من القول أن دور الناقد فخري صالح، المعروف بجهوده النقدية، لم يكن ظاهراً - كما عهدناه - فالكتاب هو تلخيص وتحليل وشرح أكثر منه تفاعل نقدي يبقى فيه للمؤلف هامش نقدي يعبر عن آرائه فيما يحلل أو يشرح. لقد وجدت أن الكتاب يقدم متقطفات موجزة لموقف إدوارد من الاستشراق ودور المثقف والثقافة، ويقدم عرضاً مقتضباً لأغلب توجهات إدوارد وأفكاره الاخرى في القضايا النقدية والمجتمعية. وربما يخدم ذلك غرض القاريء الذي يود أن يتعرف على الموضوع لاول مرة، ولكنه لا يلبي طموح القاريء المتعمق أو المتخصص الذي يسعى لقراءة عالم ادوارد سعيد عن قرب.

وباستثناء نقد موقف ادوارد سعيد السياسي، وهو ما عدّه فخري صالح نوعا من الموقف التنظيري غير العملي الذي لا يقدم بديلاً، فإننا لا نرى نقداً من قبل الكاتب لمجمل أعمال إدوارد الاخرى، بل - على العكس - نرى اشادة مطلقة بها. ولم أجد في الكتاب أي نقد لأي موقف أو وجهة نظر أو حتى اختلاف معها، بل إنه - عندما أورد نماذج من كتابات الاخرين الناقدة لاعمال ادوارد سعيد - سعى الى تفنيدها؛ فقد أورد، مثلاً، ما كتبته الناقدة والباحثة فاليري كيندي التي رأت أن إدوارد استبعد الكتابات النسائية من كتاباته واهتماماته، واستبعد النساء الفلسطينيات من تأملاته لحياة الفلسطينيين، وحتى استبعد الكتابات النسائية الاستشراقية بسبب طبيعة الثقافة الذكورية التي نشأ فيها. كما أورد نقد فاليري النظرياتِ والمناهجَ غير المتجانسة والمتعارضة، التي وظفها إدوارد في كتاب "الاستشراق"، من مثل: نظريات ميشيل فوكو، وانطونيو غرامشي، والمنهج الفلسفي الانساني، مما أدى الى وجود تعارضات أساسية في الكتاب.

وهنا نرى أن فخري قد انبرى للدفاع عن إدوارد حينما اعتبر أنه لم يرد تقديم قراءة مقارنة لصور الشرق في أعين المستشرقين، بل سعى الى تفكيك الخطاب الغربي وفهم منطلقاته النمطية التي أدت الى تشكله. ويرد فخري صالح على فاليري بأن سبب استبعاد إدوارد للكتابات النسائية الاستشراقية هو أنها كانت اكثر انصافاً من كتابات المستشرقين الذكور. ولا أظن أنه هذا سبب مقنع، فالمنطلقات واحدة ما دمنا نتحدث عن تفكيك دوافع الخطاب الغربي الاستشراقي ومنطلقاته وكيفية تشكله، بغض النظر عن جنس كاتبه. كما يجد فخري العذر لإدوارد حينما يفرد عشرين صفحة في كتابه "الثقافة والامبريالية" لرواية جوزيف كونراد بينما يكتب أسطرا قليلة عن رواية الطيب صالح "موسم الهجرة الى الشمال"، ورواية "بذرة قمح" للروائي الكيني نغوجي واثيونغو، حين يؤكد أن إدوارد حاول، بهذا الاستشهاد، تحليل فكرة التوسع الجغرافي للامبريالية. وعموماً فإن رد فخري مقتضب ولا يفصح عن أسباب جوهرية لينتقل الى الحكم على أن كتابها لا يقف على أرض صلبة! يبدو لي إن عاطفة الدفاع عن الاب الروحي هي التي تسيطر على فكر فخري صالح في كل ما يكتب عن ادوارد.

وفي الختام فانه ينبغي القول أنني من المعجبين بعصامية ادوارد سعيد الفكرية، ومكانته المرموقة، وصلابته امام الحملات الغربية التي وجهت له، والتزامه بالدفاع عن الحق الفلسطيني، وابراز معاناة الفلسطينيين، إلا أنني أظن أننا في حاجة لدراسة فكره وتسليط الضوء عليه - بعيداً عن هالة الاعجاب - فكل أعمال المفكرين والكتاب والفلاسفة تعرضت، عبر التاريخ الانساني، لانتقادات أو لمحاولات لنقضها أو للرد عليها أو لتطويرها، وهذا هو حال الفكر باستمرار.

* اللوحة أعلاه بعنوان حياة صامتة بجانب العود للفنانة النمساوية الانجليزية ايفون أيوب، نسبة الى زوجها اللبناني
** نشرت المقالة في الملحق الثقافي لجريدة الدستور الاردنية يوم الجمعة 7/5/2010.

رابط المقالة بموقع جريدة الدستور

رابط الصفحة الكاملة - جريدة الدستور