الاثنين، مارس 30

سيدة البحر


سيدة البحر

اياد نصار

قالتْ للحبِّ صورةُ الوردةِ على ساعدِكَ اليسارِ
وللهوى عنوانُ الفراشاتِ تطيرُ أولَ النهارِ
وللفجرِ صوتُ القصيدة يحملُ الجرحَ
ويشعلُ البوحَ
تبغاً لذيذاً في رمادِ موجةٍ
من صهيلٍ ونارِ
مزّقتِ الريحُ أشرعتي ونَثَرَتْها وراءَ البحارِ
وأطلقتْ أنّاتي في وشوشةِ الهمسِ
وغابتْ في رحمِ النهارِ.

تنزلُ حباتُ خوخك على جبيني كانهمارِ
وعناقيدُكِ الشّهيّاتُ متوردةٌ كالاقمارِ
نتقاسمُ السّهرَ والحمّى في اندغامٍ وانشطارِ
تنفصلُ الروحُ عند الوداعِ فتلتقي
في الاحلامِ في الف شهرزادٍ وشهريارِ
سأغزلُ من ضفائرِك الذهبيةِ منديلا موشّى
وسترقصُ خطواتُنا يا سيدةً سكنت الحشا
يشرقُ البريقُ في عينيكِ كشمسٍ من بين أمطارِ

سافرتْ سيدةُ البحر بلا انتظارِ
للغيابِ شهقةُ العذابِ وحزنُ الحروفِ
كالأقدارِ
وانطفاءُ شعاعِ النورِ في قلعةِ الفنار
حيرةٌ وضياعٌ وأنا الغريبُ في بردِ الظلام
للغرب رحلتْ مراكبُها قبل ولادةِ الكلام
على شفتي من ألقِ الانبهارِ
ماتتْ أغنياتي من وجعِ القلبِ
خلفَ أبوابِ الحزنِ المعتقِ والغبارِ.

تولدُ الأشواقُ في صمتِ البعدِ كسيرةً بلا قرارِ
وناديتُ طائرَ الروحِ المهاجرِ فكان الالمُ المستبدُّ
في انتظاري
وضاعَ بين زبدِ الموج وهديرِه سؤالي
والارض سكنها الوجومُ والحيرةْ
وتاهت في الطرقات حكايةُ أميرٍ وأميرةْ
كم هو موجعٌ الرحيل.. موجعٌ لحدّ الانكسارِ
هي الحياة تزفُّ مواكبَها المرتلةَ بالحزنِ والاخطارِ

وجهُكِ قمري يضيء ليلي وعيونُك زورقي
أبحرُ فيه بلا عودةٍ من أسفارِ
فلنرحلْ ففي السماءِ أوزاري وأسراري
في تزاحمِ الذكريات أعزفُ أغنياتي وأرسمُ أشعاري
نسكنُ النجومَ ونجمعُها عقداً نرصّعُ به الليلَ كالانوارِ
ضعي يدكِ على مساحةِ قلبي
لتورقَ الحكايا على الاشجارِ
وترتسمُ على جدرانِ القلبِ بقايا من صُوَرٍ وأعمارِ

يرشفُ القلبُ من الوجد فتغازلُ جفونُه سكون أفكاري
الليلُ يسمعُ النجوى ويصدحُ بالقول من أوتارِ
الليلُ عالمٌ سرمديٌ يمتليءُ بالحكايا وبالاسرارِ
الليلُ عالمنُا ..الليلُ موعدُنا
حلمنا فردوسٌ مفقودٌ وأرضٌ لا تخوننا
افتحي نافذتَكِ المطلةَ على البحرِ للنورسِ والازهارِ
أيةُ ربّةٍ للجمالِ أهدتكِ هذه الرؤى من السحرِ والافكارِ؟
يا من أحترقُ في أتونِك لأصبحَ أنقى
ترفقي بقلبي فالحب يطيح بقلاعي وأحجاري

اياد نصار
* اللوحة أعلاه بعنوان سفن عابرة للفنان الامريكي جين مانهايم (1863 - 1945)

الخميس، مارس 26

حياة طويلة - هيلين سمول

** الكتاب الفائز بجائزة ترومان كابوت للنقد الادبي لعام 2008


"حياة طويلة" – هيلين سمول
كبر السن في الادب والفلسفة

بقلم اياد نصار

يعد كتاب "حياة طويلة" أول عمل كبير يهتم بموضوع كبر السن في الفلسفة الغربية والادب منذ أن كتبت سيمون دو بوفوار "مجيء العمر" في عام 1970. وقد فاز هذا الكتاب الذي وضعته د. هيلين سمول الناقدة البريطانية وأستاذة الادب الانجليزي في كلية بمبروك في جامعة أكسفورد بجائزة ترومان كابوت للنقد الادبي لعام 2008 التي تمنحها جامعة أيوا في الولايات المتحدة وقيمتها 50 الف دولار. وتعد هذه الجائزة من أهم الجوائز التي تمنح لنقاد عن المساهمات المتميزة في مجال النقد الادبي منذ عام 1996.

ويعد كتابها الذي صدر في أواخر عام 2007 عن جامعة أكسفورد اضافة مهمة في مجال النقد الحديث وقد تم اختياره من قبل لجنة دولية من النقاد البارزين والكتاب وهم: تيري كاسل، جاريت ستيوارت، مايكل وود، جون كريجان، ايلين سكاري، وجيمس وود. وقد فازت هيلين خلال عام 2008 أيضا بجائزة رفيعة أخرى هي جائزة روز ماري كروشاي التي تمنحها الاكاديمية البريطانية للانسانيات والعلوم الاجتماعية عن ذات الكتاب.

وقبل الحديث عن موضوع الكتاب، فأشير الى أن د. هيلين سمول حصلت على درجة البكالوريوس في الادب الانجليزي من جامعة فيكتوريا في ولينجتون، وعلى درجة الدكتوراة من جامعة كامبردج. وقد وضعت كتاباً سابقاً صدر في عام 1996 بعنوان (جنون الحب: الدواء، والرواية، والجنون النسائي 1800 – 1865)، كما عملت محررة أو محررة بالاشتراك لعدة كتب منها (الادب والعلم والتحليل النفسي 1830- 1970).

يتناول كتاب "حياة طويلة" موضوع كبر السن في الادب والفلسفة الاخلاقية. ويدعو القاريء الى الانتقال الواسع ما بين كتابات أفلاطون مرورا بالاعمال الفلسفية المعاصرة لنقاد ومفكرين مثل ديريك بارفيت، وبرنارد ويليامز، واخرين ، ومن مسرحية شكسبير الملك لير مروراً بأعمال توماس مان، وأونوريه بلزاك، وتشارلز ديكنز، وصامويل بيكيت، وستيفي سميث، وفيليب لاركن الى الاعمال المعاصرة لصامويل بيلو الى فيليب روث الى ج. م. كوتزي.

وقد بنت كتابها كما ذكرت على محورين اثنين اساسيين هما الفلسفة والادب وناقشت أراء ومقولات أرسطو وغيره من الفلاسفة والادباء كما ذكرت آنفا. كما تعرض للطريقة التي تعامل فيها الانسان مع كبر السن والموت مثل الملك لير والملك بريام ، والموت في البندقية لتوماس مان. والكتاب يناقش الافكار ولكنه أيضا فيه جانب تأملي يتناول الجوانب الشخصية والاجتماعية لتقدم الانسان في السن.

إن التقدم في السن كما تؤكد مؤلفة الكتاب موضوع يؤثر في حياة كل انسان، ولكن أغلب الناس لا يودون التفكير فيه بعمق. ولهذا فإن كتابها قد أثبت كم هو مهم مقاربة هذا الموضوع الذي يكاد يكون من المحظورات. وإذا أردت التفكير في احتمالات وسيناريوهات الكبر في السن التي تمتاز بالرصانة والتفصيل والعمق الشعوري، فإن الادب هو أفضل مكان لذلك.

يقع الكتاب في 320 صفحة من القطع المتوسط، وتناقش هيلين سمول فيه فكرة مفادها أنه إذا أردنا أن نفهم مرحلة كبر السن (الشيخوخة) فيجب أن نفكر بطريقة أصولية عن ماذا تعني أن تكون إنساناً، وأن يكون لديك حياة، وأن تتمتع بحياة جيدة لتكون جزءا من مجتمع عادل. ماذا كان أفلاطون يقصد عندما ألمح الى أن كبر السن هو أفضل مكان تستطيع من خلاله ممارسة الفلسفة؟ أو ماذا قصد توماس مان عندما عرف كبر السن على أنه أفضل وقت لتكون كاتباً؟ وهل كانا على حق في ذلك؟ ولو فكرنا كما فعل أرسطو بأن الحياة الفضلى تتطلب البحث الحثيث عن الفضيلة فكيف ستتأثر نظرتنا للحياة المتأخرة بذلك؟ ولو فكرنا بأن اشكال الحياة والأشخاص موحدة مثلما يقال بأن القصص موحدة، فكيف سيختلف تفكيرنا عن مرحلة الشيخوخة عن تفكير شخص يظن بأن أشكال الحياة والاشخاص يمكن أن تكون منفصلة تماماً؟ في مجتمع عادل ما الذي يعتبر توزيعا عادلا للموارد المحدودة بين الشباب والشيوخ. وكيف يمكن للتطورات المعاصرة في نظرية مشهد الحواس أن تغير من تفكيرنا عن معنى أن تصبح كبيراً في السن.

يعد الكتاب إضافة هامة ويمتاز بعمق طرحه واتساع رؤيته ومن المأمول أن يغير من الطريقة التي يتحدثون بها وخاصة في الغرب عن أحد أهم التخوفات الاجتماعية في زماننا: زيادة أعداد الذين يعمرون حتى سن متقدم، وزيادة نسبة الكبار مقارنة بنسبة الشباب. أما محتويات الكتاب فتشتمل على الفصول التالية:
- العتبة الافلاطونية ( أفلاطون وتوماس مان)
- عند رؤية النهاية( أرسطو والملك لير)
- الوحدة السردية للحياة (الابيقورية، المشهد السردي، سول بيلو)
- قوة الاختيار (تخطيط الحياة الحصيف، فيليب لاركن، ستيفي سميث)
- حيثما يتوقف الاهتمام بالذات (ديريك بارفيت، بلزاك)
- الحياة المقدرة (ميتافيزيقيا أدورنو، ديكنز، بيكيت)
- الآن أو نهائيا (بيرنارد ويليامز، ج. م. كوتزي، فيليب روث)
- المشهد الحسي المتطور (نظرية التطور، محرمة ندبة مايكل ايجناتيف)
- الخاتمة

تصف هيلين كتابها بأنه عبارة عن مقالات وهو كذلك بطبيعة الحال. لاول وهلة يبدو الموضوع محددا ضيقاً بشكل منطقي: ماذا قال الفلاسفة وغير الفلاسفة عن مرحلة التقدم في السن، والذي في حقيقته لم يتغير كثيرا منذ العصور الكلاسيكية القديمة. لكنهم قالوا الكثير عن الحياة بشكل عام ومرحلة التقدم في السن هي جزء منها. وهي تبرز ما قالوه ولكنها تبذل جهدا وتبدي براعة تثير الاعجاب في توظيف ما قالوه بما يخدم غرضها.

وقد قالت في معرض ردها على سؤال حين علمت بخبر فوزها: "انا سعيدة وأتشرف بذلك. لقد كانت أبحاثي قبل حياة طويلة مكرسة للعهد الفيكتوري، ولهذا فإن هذا الكتاب شكل قفزة نوعية بالنسبة لي. لقد حصلت على اجازة زمالة للبحث منذ عام 2001 الى عام 2004 قضيت أغلبها كأستاذ زائر في جامعة نيويورك، وبدون تلك الفترة الطويلة للتفرغ الاكاديمي لم يكن بوسعي إنجاز مثل هذا العمل بهذا الحجم. ولهذا فأنا شاكرة الى اللجنة".

وقد قالت المؤلفة أن كتابها حظي بهذا الاهتمام لأن موضوعه مهم بشكل واضح لكل انسان، ولكن هناك القليل مما كتب عنه، مما يشجع الناس على وضع هذا الموضوع جانباً حتى وقت لاحق. إن "حياة طويلة" هو عن الطرق الاساسية التي نفكر بها في حياتنا، والشكل الذي تتخذه، والقيمة التي نعلقها عليها حينما نفكر أن الافضل لو نموت. إنه ليس فقط عن الكبار في السن ولكن عن كل واحد منا.

وقالت: "لقد بدا لي بأن ذلك أحد المواضيع العظيمة القليلة الذي لم يمس من قبل على الاقل من قبل الفلاسفة وباحثي الادب. إنه موضوع يؤثر في كل واحد منا، ولو تأثيرا محتملاً، إلا أن الكثير منا يتفادون التفكير به ملياً. ولكن هناك العديد من القضايا مثل ماذا يعني بالنسبة لنا أن نصبح كباراً في السن، كيف نتوقع ان تكون امكانياتنا الذهنية، وكيف سيكون شكل علاقاتنا بالاخرين. وما هو الجيد الذي سيكون في حياتنا عندئذ، وما هو السيء حينما نريد لها أن تنتهي! ولا تتفق هيلين مع الرأي الشائع القائل بأن العلم أكثر أهمية من الادب. بالنسبة لها فإن كتابها على درجة من الاهمية للمجتمع. تقول: "الادب بما في ذلك المسرح هو أحد الاماكن التي إهتمت بموضوع الكبر في السن منذ أيام سوفوكليس. إن مسرحية الملك لير مهمة على وجه الخصوص بالنسبة لنا، وما يزال لها ذلك التأثير في خيال الثقافة عن الكبر في السن. وبعكس مسرحيات شكسبير التراجيدية، فإن عيوب لير ليس الاّ سنه، وتلك الاحكام الخاطئة التي تقترن به وتقلب المزاج".

ومن الجدير بالذكر أنه تم الاعلان عن تأسيس جائزة ترومان كابوت في عام 1994 في مدينة نيويورك بمناسبة الذكرى الاربعين لنشر نوفيلا ترومان كابوت المسماة " إفطار في تيفاني" بناء على وصية كابوت وقد جعل الجائزة تخليدا لذكرى الناقد الانجليزي نيوتن آرفين الذي كان كابوت من المعجبين بكتاباته ولكنه فقد سمعته ووظيفته في كلية سميث في الاربعينيات حينما تم الكشف عن تورطه في علاقة جنسية مثلية. ومن بين من حصلوا عليها في السنوات السابقة الفائز بجائزة نوبل الاديب الايرلندي وأستاذ الشعر في جامعة اكسفورد سيموس هيني.

الثلاثاء، مارس 24

جولة في مواكب جبران


جولة في مواكب جبران

بقلم: اياد نصار

ألف جبران خليل جبران بإلهام الشاعر وبصيرة الفيلسوف وسحر ريشة الرسام وترفع وزهد الناسك قصيدة المواكب في عام 1918 بالعربية. تعتبر قصيدة المواكب بناء فنيا متكاملا ينطوي على مشروع فلسفي تأملي تحليلي ويقوم على أساس المقارنة بين عالم البشر من خلال تقديم صور تعكس جوانب ساخرة زائفة للمجتمع وبين عالم الطبيعة الذي يمثل الجانب الرومانتيكي الروحاني الصافي المفقود من حياة البشر في المجتمع وبين عالم الفنون الذي يمثل حلقة الوصل التي يمكن أن تردم الهوة بين الاثنين. تقدم القصيدة كثيراً من المقارنات لجوانب حياة الانسان في المجتمع بكل ضلالاته وزيفه ومظاهره الخادعة وبين عالم الطبيعة الساحر بصفائه ونقائه الذي يرمز للجانب الرومانتيكي. أراد جبران بهذه القصيدة البديعة البناء والمعاني طرح أهم القضايا المصيرية التي تحدد حاضر ومستقبل الانسان.. بل مصيره كله والتي رأى فيها التناقض الصارخ بين قيم هذين العالمين.

تتكون المواكب من حوالي مئتي بيت ويزيد ويغلب عليها السمة الرومانتيكية التي ميزت كثيرا من أعمال جبران سواء باللغة العربية أم بالانجليزية. وقد اراد جبران من خلالها تقديم مواكب شتى هي في حد ذاتها مسيرة البشر في المجتمع الذي يحفل بصور ضلالهم وزيفهم ومعتقداتهم التي تقتل أرواحهم. وهي في هذا دعوة إلى العودة لأحضان الطبيعة وبساطتها حيث أسبغ عليها من التجسيد صفات إنسانية تجعلها فردوس الانسان المهجور بدلاً من العيش في ظل القيم الزائفة للمجتمع.

وبداية فإن عالم البشر هو هذا المجتمع الذي يمور بالظلم والشر والحزن والقتل واستغلال الدين والنفاق والباطل والجهل والكراهية والبغض وثنائية الروح والجسد المشوهة وغيرها الكثير. في حين أن عالم الطبيعة بحيوانه ونباته وجماده هو ذلك العالم الذي اعتبره جبران عالم البراءة والنقاء الذي يمور بنقيض ما يمر به عالم البشر. وهذه المقارنة أراد بها جبران ساخرا إظهار كيف أن الانسان في تجربته قدم نموذجاً بشعاً للحياة والعلاقات الانسانية والقيم التي بنى عليها حياته. لقد انطوت قصيدة المواكب على نظرة متشائمة للغاية لعالم البشر فهو مستودع وأصل كل الشرور وكل مظهر للحياة فيه ينم عن أسوأ صورة للاستغلال وتشويه القيم المتعمد الذي يقوم به الانسان. وبهذا المعنى يصبح عالم الطبيعة والغابات هو الجنة المفقودة التي لم يتمكن الانسان من تحقيقها في حين أن المخلوقات الادنى منه قدمت نموذجاً أرقى لما يمكن أن تكون عليه الحياة فيها.

أما أحاديث الغناء ونداءات الناي فهي صور ترمز الى عالم الفنون التي يطرحها جبران كمخرج للازمة. هو الجسر الذي يمكن من خلاله الانتقال من عالم البشر البشع الى عالم البراءة والخير والنور وكل المعاني والصور والمظاهر الجميلة للقيم الانسانية في أروع تجلياتها. فإذا كان الانسان شقياً بائسا في عالم البشر ولا يتسنى له الوصول الى عالم البراءة والنقاء الذي يرمز اليه عالم الطبيعة فإن الفن هو وعاء الفكر وهوالوسيلة التي تخاطب أحاسيس وقلوب وعقول البشر. واذا كان عالم البشر بكل تناقضاته وصوره الصارخة في النهاية زائل فإنه الفن باقٍ خالد للابد. وفكرة خلود الفن الذي يخلد معه جمال الانسان كما ورد ذلك كثيرا في أعمال شكسبير وخاصة السونيتات ليست جديدة، بل إن جذورها يمتد في الزمن السحيق الى فكرة carpe diem التي تعني الاستمتاع باللحظة الزمنية قبل أن تفنى ، والى فكرة أن الزمن الهارب لا سبيل لايقافه او الامساك به الا من خلال تخليد اللحظة في لوحة فنية او عمل أدبي ابداعي او موسيقي او غير ذلك.

تنقسم قصيدة المواكب الى سبعة عشر بناءً شعريا متشابها متكررا تليه خاتمة هي الخلاصة التي يبرز فيها جبران أهمية عالم الفن. اما البناء الفني الذي يتكرر في القصيدة سبع عشرة مرة فهو على هذا النحو:
- أربعة أبيات ذات قافية واحدة تنقل مشاهد متشائمة تنطوي على صور التناقض والشرور والاثام والنفاق من عالم البشر
- أربعة أبيات ذو قافية مختلفة تنقل تشبيهات ومقارنات للصور الانفة ولكن من عالم الطبيعة وهي نقيض الصور في الاربعة أبيات الاولى. وتتضمن هذه الابيات الاربعة في آخرها بيتين أو أحياناً أخرى بيتاً من نفس القافية ينطويان على النتيجة التي توصل لها جبران عن اكتشاف سر الشقاء الانساني
- بيتان من قافية مختلفة كخاتمة يبرزان دعوة جبران للانسان للانخراط بعالم الفن والتسامي به نحو الرقي وهما يبرزان فكرة تفرد عالم الفن وخلوده

ولدلالة على ذلك نأخذ بعض المقاطع كأمثلة على هذا البناء الفني الفريد:
- أربعة أبيات ذات قافية واحدة تنقل مشاهد متشائمة تنطوي على صور التناقض والشرور والاثام والنفاق من عالم البشر:

الخير في الناس مصنوعٌ إذا جُبروا ........... والشرُّ في الناس لا يفنى وإِن قبروا

وأكثر الناس آلاتٌ تحركها ........................... أصابع الدهر يوماً ثم تنكسرُ

فلا تقولنَّ هذا عالم علمٌ ............................... ولا تقولنَّ ذاك السيد الوَقُرُ

فأفضل الناس قطعانٌ يسير بها .................. صوت الرعاة ومن لم يمشِ يندثر

- أربعة أبيات ذو قافية مختلفة تنقل تشبيهات ومقارنات للصور الانفة ولكن من عالم الطبيعة وهي نقيض الصور في الاربعة أبيات الاولى. وتتضمن هذه الابيات الاربعة في آخرها بيتين أو أحياناً بيتاً من نفس القافية ينطويان على النتيجة التي توصل لها جبران عن اكتشاف سر الشقاء الانساني
ليس في الغابات راعٍ ............ لا ولافيها القطيعْ
فالشتا يمشي ولكن .............. لا يُجاريهِ الربيعْ
خُلقَ الناس عبيداً............. للذي يأْبى الخضوعْ
فإذا ما هبَّ يوماً............... سائراً سار الجميعْ

- بيتان من قافية مختلفة كخاتمة يبرزان دعوة جبران للانسان للانخراط بعالم الفن والتسامي به نحو الرقي وهما يبرزان فكرة تفرد عالم الفن وخلوده
أعطني النايَ وغنِّ........... فالغنا يرعى العقولْ

وأنينُ الناي أبقى................. من مجيدٍ وذليلْ

وهذا مثال آخر عن الدين وتدين الانسان الذي يخفي من ورائه وطراً كما يراه جبران:
- أربعة أبيات تنقل مشاهد متشائمة تنطوي على صور الضلال والزيف والتناقض والشرور والنفاق من عالم البشر:
و الدين في الناسِ حقلٌ ليس يزرعهُ ......... غيرُ الأولى لهمُ في زرعهِ وطرُ

من آملٍ بنعيمِ الخلدِ مبتشرٍ ..................... ومن جهول يخافُ النارَ تستعرُ

فالقومُ لولا عقاب البعثِ ما عبدوا ........... رباًّ ولولا الثوابُ المرتجى كفروا

كأنما الدينُ ضربٌ من متاجرهمْ .......... إِن واظبوا ربحوا أو أهملوا خسروا

- أربعة أبيات أخرى تنقل تشبيهات ومقارنات للصور الانفة من عالم الطبيعة وهي نقيض الصور الاولى. وتتضمن هذه الابيات في آخرها النتيجة التي توصل لها جبران عن اكتشاف سر الشقاء الانساني:
ليس في الغابات دينٌ .......... لا ولا الكفر القبيحْ

فإذا البلبل غنى ............... لم يقلْ هذا الصحيحْ

إنَّ دين الناس يأْتي ............... مثل ظلٍّ ويـروحْ

لم يقم في الأرض دينٌ .......... بعد طه والمسيح

- بيتان كخاتمة يبرزان دعوة جبران للانسان للانخراط بعالم الفن والتسامي به نحو الرقي والحديث عن فكرة تفرد عالم الفن وخلوده:
أعطني الناي وغنِّ ............ فالغنا خيرُ الصلاة

وأنينُ الناي يبقى ............. بعد أن تفنى الحياةْ

ويمكن تطبيق ذات التقسيم الرائع على هذه الابيات التي سخر فيها جبران من عدل الانسان الذي إعتبره كثلج اذا طلعت عليه شمس الحقيقة ذاب وتبخر!

والعدلُ في الأرضِ يُبكي الجنَّ لو سمعوا ...... بهِ ويستضحكُ الأموات لو نظروا

فالسجنُ والموتُ للجانين إن صغروا ........ والمجدُ والفخرُ والإثراءُ إن كبروا

فسارقُ الزهر مذمومٌ ومحتقرٌ .............. وسارق الحقل يُدعى الباسلُ الخطر

وقاتلُ الجسمِ مقتولٌ بفعلتهِ ..................... وقاتلُ الروحِ لا تدري بهِ البشرُ


ليس في الغابات عدلٌ......... لا ولا فيها العقابْ

فإذا الصفصاف ألقى............ ظله فوق الترابْ

لا يقول السروُ هذي............ بدعةٌ ضد الكتابْ

إن عدلَ الناسِ ثلجُ.......... إنْ رأتهُ الشمس ذابْ

أعطني الناي وغنِ ............ فالغنا عدلُ القلوبْ

وأنين الناي يبقى............. بعد أن تفنى الذنوبْ


وفي ختام المواكب يقدم جبران رؤيته للهروب من عالم البشر المليء بصور النفاق والتناقض الساخر ومن الاثام والالام والحقائق الغائبة الى عالم الطبيعة الارحب والاجمل بصفائه واقترابه من أصل الانسان وروحه. في هذا الجزء الاخير يقدم جبران رؤيته بنمط بنائي فني مختلف عن باقي القصيدة كأنما أرد بذلك إبراز أنها مختلفة. يرفض جبران قيم الانسان ويعتبرها هباء، بل إن الانسان ذاته ليس الا وهم مثل سطر كُتب بماء سرعان ما يجف ويتلاشى، ولا يبقى الا عالم الفن. ولكن هنا جبران يبرع في خلق التزاوج بين عالم الطبيعة وعالم الفن حين يدعو للغناء في حضن الطبيعة من خلال تقديم صور عذبة للعيش في عالم النقاء والصفاء النوراني الاثيري. بل إن جبران يقر في النهاية بعجزه عن تحقيق هذا الحلم حين تفرض أشواق الجسد نفسها عليه وحين تدفعه النفس الى مآرب دنيوية أخرى تبعده عن هذا العالم الصافي الجميل الخالد:

أعطني الناي وغنِّ .................. وانس ما قلتُ وقلتا

انما النطقُ هباءٌ ........................ فأفدني ما فعلتا

هل تخذتَ الغاب مثلي ............... منزلاً دون القصورْ

فتتبعتَ السواقي ..................... وتسلقتَ الصخورْ

هل تحممتَ بعطرٍ ........................ وتنشقت بنورْ

و شربت الفجر خمراً .............. في كؤُوس من أثير

هل جلست العصر مثلي ............... بين جفنات العنبْ

والعناقيد تدلتْ .......................... كثريات الذهبْ

أعطني الناي وغنِّ .................. وانسَ داًْء و دواء

إنما الناس سطورٌ ...................... كتبت لكن بماء


العيشُ في الغاب والأيام لو نُظمت ....... في قبضتي لغدت في الغاب تنتثر

لكن هو الدهرُ في نفسي له أَربٌ .............. فكلما رمتُ غاباً قامَ يعتذرُ

وللتقادير سبلٌ لا تغيرها والناس ........ في عجزهم عن قصدهم قصروا

اللوحة أعلاه للاديب والرسام جبران خليل جبران بعنوان تناغم فوق الذروة (1883 - 1931)

السبت، مارس 7

حديث الكلمات في حضرة الصمت


حديث الكلمات في حضرة الصمت

اياد نصار

مقدمة غير ضرورية:
تخامرني شكوك تمزق شرنقة السكينة التي أدعي كاذباً إمتلاكها
يخذلني الجسد حيناً والرغبة حيناً والملل حيناً آخر
أحرر ذاتي بالتلميح والايجاز
- تقول لي أبحر يا صديقي الى النهايات
- فأقول كيف يمكن النصر على المجهول
- لا بد من الاحتفال معا وشرب الانخاب على مائدة قصر روسي من الكريستال البوهيمي. فابحث لك عن رفيقة تلهمك بعض الجنون.
- أهذي .. نبوءاتك هي الوطن الذي تعيش به أما الذي تعيش فيه فهو منفى
- كلامك يؤنس وحشتي في الجزيرة النائية
- أحقا تسرّي كلماتي البائسة عنك؟ اليك عني. أمامك البحر فاختر حورية تخرج اليك كلما رغبت لتؤنس وحدتك.
- أراك تأخذني الى عالم لست أدري حقيقة جوهره من هرطقة ظاهره! ولكن لم يبق من برهة للسفر معك. لعلنا نسافر غدا!


نغترب ونحن فيك
يا وطن
يقتلنا الحنين فيحيينا
وعدُك
في إغفاءة الزمن!

[ جاءت معذبتي]
في ليلِ الشجنْ..
مهيبة َ الصمت
تنقش حروفها
على صدر الزمنْ
قلادة ً
وترسم بأناملها الليلكية
أجملَ وطن!

معذبتي قمرٌ لوحدة الروح
يطل كالصمتِ
مهيباً كالموتِ
في أماسي الشعر والنجوى
تثور الاشواق كليلة ً صرعى
ترتقي الاشارات والشروح
تتسامى
برغم نزف الجروح
فوق أشعارالهوى

أفردوسُكِ المفقودُ
صحوٌ أم حلم؟
في ليل اللقاء
يغيب.. يتبدى
ويسقط ثلج بلّوري
من قصائدِك
على أوراقي
في يوم شتائي
يتلألأ.. يتهادى
رأيته.. سمعته..
في روعةِ صوتكِ العذبْ
فيولدُ أنينٌ هامسٌ شفيف
يملأ حنايا القلب

وتتمردُ عاطفةُ الغواية
المهذبة
كطفلٍ شقي يدعي البراءة
المعذبة
نتفلسفُ كتصريح شهيدْ
ينتظر ساعة التنفيذ ْ
ويصمت عقل الرؤية المتمنّعة
المتعبة
أمامَ موجِ حروفك
المذهبة

يا حكيمة ً
تلهو بالصور الكبيرة ْ
لتصنع أغنية الضجرْ
على أنغام الوترْ
أنتِ لستِ مثل حكماء الذكريات
المريرة ْ
يدّعون حكمة،
وكرامات خطيرة ْ
يفسرون
أحلامَ النائمين
أضغاثاً
في عزِّ الظهيرة ْ

طال صمتُكِ يا ساحرة الرؤى
فمتى تشدو بالهوى
قمرية ُ الشعر
وتبني على شاطيء البحر
قصوراً من رمالْ؟
يثور في القلب
دائما
السؤالْ

نغترب ونحن فيك
يا وطن
يقتلنا الحنين فيحيينا
وعدُك
في إغفاءة الزمن

اياد نصار

* اللوحة أعلاه للفنان العراقي علي التاجر

الجمعة، مارس 6

الانطباعية: نشأتها وماذا بقي منها؟


الانطباعية: نشأتها وماذا بقي منها؟

بقلم اياد نصار


في عام 1986 كنا مجموعة من رفاق الادب والرسم الذين تستهويهم فلسفات المدارس الفنية لأن في فهم مبادئها وأهم ملامحها يمكننا متابعة تطور الفكر الانساني، ومن خلال إدراك مجالات الاختلاف والالتقاء بينها يمكنك أن تتلمس وتشهد كيف تصنع الافكار الجديدة التي تشكل معالم مستقبل الانسان، ولأنها الوسيلة التي تفتح لك آفاق الرؤية التي تمكنك أن تستوعب عالماً من البناء الفني الذي يقوم على مجموعة من مباديء الفكر والجمال والاحاسيس والتأثيرات النفسية لعناصر اللوحة. وقد شغلتنا بعض حركات الحداثة كثيراً كالانطباعية والرمزية والواقعية والدادائية والسريالية وغيرها.

سيطرت على الفن مرحلة طويلة تبحث عن الاتقان المثالي في نقل صورة الواقع بكافة تفاصيله الدقيقة ومحاكاة المشاعر والاحاسيس والالوان ومختلف الحالات النفسية التي تظهر معالمها على الانسان في صورته الخارجية. وكانت عظمة الفنان تأتي من قدرته على إختيار وتصوير هذه العناصر بدقة متناهية. ومنذ عصر النهضة في منتصف القرن الرابع عشر حين تم إعادة اكتشاف جماليات الابعاد الانسانية للفنون في الحضارة اليونانية والرومانية الى أواسط القرن السابع عشر فقد ظهر عدد من الفنانين العظام في أماكن متفرقة من أوروبا في ايطاليا وهولندا والمانيا وانجلترا الذين قدموا العديد من اللوحات والمنحوتات والتماثيل التي تنقل أدق وأجمل التفاصيل البشرية في جسم الانسان وفي تصوير المشاهد اليومية واللوحات ذات التأثيرات الدينية. ومن فليبو ليبي الى ليوناردو دافنشي الى رفاييل الى مايكل أنجلو الى جان فان ايك الى بيتر بروغل الى جان فيرمير ورمبرانت وفيلاسكويز وغيرهم انتشرت نهضة فنية امتد تأثيرها لاحقا خلال عصور الباروك والركوكو والكلاسيكية الجديدة حتى منتصف القرن الثامن عشر، حين بدأت تظهر تأثيرات المدرسة الرومانسية بالدعوة الى الاهتمام بالتعبير العفوي التلقائي عن المشاعر والخيال والاحاسيس ورفض القيم التقليدية وتمجيد الثورة والاهتمام بالطبيعة والدفاع عن المعذبين والمستضعفين وتمجيد النزعات الذاتية الفردية أمام سيطرة قيم المجتمع التقليدية.

في تلك الاجواء ظهرت الانطباعية التي كانت تهدف الى نقل الانطباع الحسي الذي يتولد في ذهن الفنان ببساطة دون الاهتمام بالمعايير الفنية المتبعة التي تنقل التفاصيل كما هي. كانت الانطباعية هي تأثير الاشياء على الفنان كما يراها في وعيه الحسي. ورغم أن الانطباعية لم تركز كثيراً على المضمون الفكري للوحات كما ظهر في المدارس التالية كالتعبيرية والرمزية والواقعية والسريالية وغيرها، إلا أن تركيزها على الجانب الذاتي لدى الرسام في رؤية الاشياء ومدى تأثير الالوان عليه والاهتمام بنقل حالات الطبيعة المختلفة ما بين الضوء والظلال والمطر والصحو والضياء وإحتفاء الانسان بهذه الحالات وتخليدها في لحظة هاربة من الزمن أعطاها حضورا متميزاً. لقد حفلت الفترة القصيرة منذ عام 1874 حين أقيم أول معرض إنطباعي وحتى 1889 حين بدأ يتشكل المذهب الرمزي وتتراجع الانطباعية وصارت الفكرة محل اهتمام الرسامين بدلاً من الاحساس الذي يخلفه تأثير الاشياء والالوان بتطورات عديدة وقيام معارض انطباعية عديدة وانضمام وانشقاق عدد كبير من أشهر الفنانين الذي ساهموا بدور كبير في انتشار المذهب الانطباعي.

لقد ساهمت الانطباعية في خروج الفنانين من مراسمهم الى حضن الطبيعة لنقل حركة أمواج البحر واشعة الشمس وتأثير ضوئها المتوهج والغيوم وتحركاتها وظلالها والمطر والثلج ونقل انطباعات الاثير والدخان والضباب في لحظات هاربة لا بد من تخليدها ليعيش ذلك الاحساس الذي تخلقه في وعي الفنان. وككل الحركات الفنية التي تشهد إفراطاً في استخدام مبادئها الى حد يبعدها عن عفويتها وبساطتها التي قامت عليها أساساً فقد أفرط الانطباعيون في نقل مشاهد انطباعات الضوء والحركة والالوان. وأخذوا ينقلون التحولات التي تطرأ على ذات المكان او الواجهات خلال ساعات النهار المختلفة.

لم تعد دقة التفاصيل وقواعد الاشكال الهندسية ووضوح الخطوط والالوان وتمايزها عن بعضها تعني الانطباعية كثيراً. فقد كانت تركز على درجات الالوان وإشراقاته. لهذا تحفل اللوحات الانطباعية بالالوان الزاهية المتداخلة كالاصفر ودرجاته المختلفة والازرق ودرجاته والاخضر ودرجاته ومن هنا كان تركيزهم على امتزاج هذه الالوان الزاهية كالفيروزي واللازوردي والرمادي والبنفسجي والبرتقالي. باختصار كانت العين وانطباعاتها الذاتية هي الاساس ولم يعد التفكير المنطقي العقلي بالاشياء وأبعادها الدقيقة ونقل جزئياتها هو الاساس.

وقد بدأت الانطباعية في الفن ثم انتقلت للادب والموسيقى. عكست أعمال الروائي والناقد الفرنسي مرسيل بروست وخاصة كتابه البحث عن الزمن الضائع وأعمال الاديب الفرنسي أندريه جيد وخاصة في كتابه قوت الارض دعوات الانطباعية، مثلما عكستها موسيقى كلود دو بوسي.

تعتبر لوحات الفنان جين ديلاكروا رغم أنه لا ينتمي للانطباعية ملهماً أساسياً لفناني المدرسة الانطباعية بتركيزه على تأثير مزج الالوان والظلال، ولو أن هناك مؤثرات أخرى غير مباشرة سبقت ديلاكروا مثل أعمال الفنانين فراغونار في فرنسا وكونستابل وتيرنر في إنجلترا، كما ظهرت مجموعة ممن عرفوا برسامي النور أو الضوء من منطقة بروفانس.

في تلك الاجواء التقى عدد من الفنانين بزعامة إدوار مانيه في محترف غلير في أحد ضواحي باريس. وقد شكل الحدث الابرز في مسيرتهم وقيام ما عرف فيما بعد بالانطباعيين هو المعرض الذي أقامه نابليون الثالث في قصر الصناعة في باريس عام 1863. وقد رفضت بعض الاعمال التي تقدم بها بعض الفنانين أمثال كميل بيسارو وبول سيزان ومانيه، فأقيم معرض آخر دعي بمعرض المرفوضين الذي إعتبره النقاد شيئاً مستهجناً ومجرد تلطيخ بالالوان. ومن اللوحات التي عرضت في ذلك المعرض لوحة مانيه الغداء على العشب التي اصبحت فيما بعد من أشهر اللوحات الانطباعية على الاطلاق. وقد حاول مانيه الاشتراك في عدد من المعارض بعد ذلك إلا أن عددا من لوحاته لم تقبل. وأمام هذا الرفض فقد إشترك عدد من الفنانين في إقامة معرض كان البداية الرسمية الاولى للمعارض الانطباعية في عام 1874 ومن أبرز من إشترك به كان: بول سيزان وكميل بيسارو وإدوار ديغا وكلود مونيه وبيير اوغست رينوار والفرد سيسلي ولم يشترك به مانيه. ويومها هاجم صحافي مغمور إسمه لويس لوروا المعرض ضمن موجة النقد والرفض التي جوبه بها الفنانون. وكان هو أول من استخدم كلمة إنطباعية في معرض سخريته من اللوحات وأساليب الفنانين الجديد في الرسم.

استمر الانطباعيون في محاولاتهم ودفاعهم عن مذهبهم الجديد في الرسم واقاموا عدة معارض وصلت الى ثمانية كان آخرها في عام 1889. تطورت أعمال الفنانين الانطباعيين ومرت بمراحل مختلفة من تطور مسيرتهم الفنية وشهدت في بعض الحالات خروجاً عليها ونقدها كما في حالة بول سيزان الذي بدأ يسير في إتجاه مغاير بدءاً من عام 1882 حين حاول الجمع بين تأثير المشهد على الحواس وربطه بالتفكير العقلي الذي ينظم وسائل التعبير. كانت لوحات كلود مونيه ورينوار وإدوار مانيه التعبير الاقوى والابرز عن مباديء هذه الحركة وقد مر كل منهم بتطورات في أسلوبه عرفت بالمراحل واشتق كل واحد لنفسه خطاً يتباعد عن البدايات. وهكذا بدأت تظهر مرحلة سميت بالانطباعية الجديدة التي قدمت الفنان جورج سورا تطور عنها فيما بعد الحركة ما بعد الانطباعية أو الرمزية في الرسم على يد بول غوغان وبوفي دو شافان وفي الادب على يد الشاعرين مالارميه وبودلير.

هناك العديد الكثير من اللوحات الانطباعية في تاريخ الفن التي قدمها الفنانون الذين وردت اسماؤهم في هذه المقالة وغيرهم من الاقل شهرة. حيث قدم كل منهم العشرات بل المئات من اللوحات التي اكتسبت شهرة واسعة وصارت من أركان معارض الفنون الحديثة وأصبحت لا بد عنها عند تقديم تاريخ الفن الحديث للدارسين والمهتمين. كما بلغت القيمة المادية لبعض هذه اللوحات في المزادات الفنية مبالغ باهظة لم تصلها من قبل.

والان وبعد ما يزيد على مئة عام على رحيل الانطباعيين الرواد الكبار، يظل السؤال الذي يلح على الخاطر: ماذا بقي من الانطباعية؟
ربما ليس كثيراً، فالانطباعية أبرزت الجانب الحسي الجمالي الفردي لكنها أهملت الجانب النفسي الداخلي الذي التقطته فيما بعد التعبيرية والسريالية، كما ركزت على الرؤية والحواس وتخليد الجمال اللحظي الهارب بمنظور ذاتي، ولم تهتم كثيراً بالجانب الفكري او الواقعي لمشكلات الانسان المعاصر.


* اللوحة أعلاه للفنان الفرنسي بيير اوغست رينوار بعنوان أختان على الشرفة، 1881.


الاثنين، مارس 2

ذات يوم شتائي


ذات يوم شتائي

قصة قصيرة
بقلم اياد نصار

تهطل قطرات رذاذ من بقايا ليلة ماطرة. تتشكل دوائر في بقع المياة الراكدة في وسط الشارع. تكبر وتتسع ثم تتلاشى. تقف تحت عمود الانارة وهي ترتجف من البرد. بجانبها عمود قصير وضعت عليه لوحة خضراء صغيرة تحمل اسم الشارع. تحمل حقيبة أنيقة سوداء في يدها، وتلبس معطفاً طويلا خمرياً من قماش فاخر. تلف رقبتها بغلالة من الفرو وتلبس على رأسها قبعة سوداء يلفها شبر حريري أبيض يعطي القبعة شكلاً أنيقاً. تلبس حذاء نسائياً أسود اللون عالي الكعب مدبب الرأس. ترتدي فوق ساقيها جرابات طويلة شفافة رمادية. تمسك بيدها الاخرى القبعة خوف أن تطير. تهب ريح قوية فينفتح معطفها فيبدو فستانها الازرق الكحلي تحته. تنظر الى آخر الشارع ويداها ترتجفان من البرد.

السماء داكنة ملبدة بغيوم ثقيلة توحي بالكآبة والوحدة. من خلفها يمتد حقل واسع منحدر من الاعشاب والحشائش الخضراء. تلمع قطرات المطر على أوراق الحشائش. تركض فتاة صغيرة عبر وسط الحقل، بكنزتها الزهرية المونّسة بلون ذهبي وقبعتها الحمراء. تلبس بنطالاً رمادياً فضفاضاً. تحمل على كتفها حقيبة قماش سوداء ثقيلة منتفخة. يسير أمامها كلب أسود صغير الحجم غير عابيء بمياه المطر. تبدو البيوت العشوائية بعيدة صغيرة في نهاية الحقل الواسع بألوانها الباهتة. تنظر يُسرى الى آخر الشارع لعل سيارة تلوح بعد إنتظار طويل. يمر من أمامها رجال غير مبالين بالمطر، ونساء يحملن مظلات زاهية الالوان. أوراق الشجر على رصيف الشارع مثقلة بحبات المطر. تسقط القطرات وتتألق الاوراق لمعاناً.


يقف رجل يلبس معطفاً بنياً من الكتان ويلف وجهه ورأسه بشماغ مخطط بالابيض والاسود على حافة السور المقابل. يمسك بيديه طفلين يحملان حقيبتين على الظهر. ستمر الحافلة بعد قليل. ينظر الى سيل المياه الجارف الهادر عبر القناة خلف السور. مياه موحلة من الطين تضطرب وتندفع في القناة المكشوفة. ترتفع أمواجها ساحبة في طريقها كل شيء. ينظر برهبة الى المياه المندفعة ويسمع صوتها العنيف. تستغل يسرى لحظات إنشغاله. تنظر الى الطفلين وتبتسم لهما. يبتسمان لها أيضاً. ينظر اليها وهي تقف مرتعشة. تنظر اليه. تتلاقى العيون. تشيح بوجهها بعيداً. تمر سيارة مسرعة. تمد مظلتها كي تتوقف، لكن السيارة تستمر في سيرها. مرت سيارة أخرى فارغة رفعت مظلتها لكنها لم تتوقف. تنظر الى ساعتها بقلق وملل. تقف منذ حوالي نصف ساعة ولم تتوقف لها سيارة. كم تصبح المدينة كئيبة باهتة باردة القلب في الشتاء.


تنظر الى الفتاة الصغيرة تركض، والكلب أمامها وسط الحقل الاخضر. تتابعها بنظراتها. تبتعد وتصغر. تسرح بأفكارها. تنظر الى جهتي الطريق. تمر سيارات مسرعة ولا أحد يتوقف. ترشقها القطرات من عجلات السيارات.. تبتعد للخلف قليلاً. تشعر بالحنق وتلعن في داخلها لعنات مكبوتة. ستتأخر عن الدوام. من سيصدقها في المكتب؟ أنها تقف هنا منذ اكثر من نصف ساعة. لقد تأخرت في الايام الماضية رغماً عنها. لم يقل رياض لها شيئاً ، ولكن نظرات التكذيب بائنة في عينيه. شعور ينغص عليها يومها ويقتلها من الداخل. لا تريد أن يتجاسر عليها اذا استمرت تتأخر كل يوم. ربما يخرج عن صمته ويوجه لها ملاحظة قاسية. ستكون بداية تنذر بمعاملة أخرى. يكيفيها ما بها. لا تريد أن يزيد العمل من مراراتها المكبوتة. لقد استيقظت مبكرة هذا الصباح الماطر. ولكن الحظ يعاندها.


يسمع الرجل صوت الحافلة تقترب. ينظر الى ساعته. كل يوم ينتظرها في الصباح. صار سائق الحافلة يعرفه. تبدل السائقون منذ ثلاث سنوات، وهو يقف كل يوم مع الطفلين في ذات المكان. يصعد الطفلان الى الحافلة البرتقالية. تراقب يسرى الموقف بكل تفاصيله. تعود غصة من تجاويف الذاكرة، فتحس لها بطعم المرارة في الاعماق. تبلع ريقها. تنسى الاحساس بالبرد والوقت، وهي تتأمل منظر الطفلين يصعدان للحافلة. لم تعد تحس بشيء من حولها. تراه يلوح لهما بيديه مودعاً. تتحرك الحافلة وهو ما يزال ينظر اليهما. تتابعه بنظراتها. يلاحق الحافلة بنظراته حتى تختفي عند آخر الشارع. يعود أدراجه، فتبتلعه البناية. تنظر اليه يسرى وهو يختفي في رحم البناية المقابلة. تشرد بنظراتها الى الحقل المنحدر الواسع. لقد إختفت البنت الصغيرة. هدوء يسود المكان. تنتظر ملولة قلقة. ترتجف يداها من البرد. لكنها بقيت متسمرة مكانها. ربما يشفق عليها القدر فتتوقف لها سيارة. في آخر الشارع ينتظر كثيرون. لن تكون فرصتها أحسن حالاً. أحست بالضيق. لقد فات الوقت وهي ما تزال هنا. ستؤرقها نظرات رياض مثل كل يوم.


ما يزال رذاذ المطر يتساقط خفيفاً. تتسع الدوائر أمام ناظريها ثم تتلاشى. قصفة ريح تعبر وجهها فتحس بقشعريرة تسري في بدنها. توقفت حافلة برتقالية على الطرف الاخر. نزل منها طفلان يحملان حقيبتيهما على ظهريهما. نظرت اليهما. لم تصدق المفاجأة. لين بمعطفها الاحمر الغامق يلف جسدها وطاقية من الصوف المشغول باليد تغطي خصلات شعرها الذهبية. وعلاء يتلفع بمعطفة الكحلي الغامق من الجلد، وطاقية سوداء تغطي شعره الاشقر الناعم. وقفت مذهولة غير مصدقة. صرخت لين..علاء. التفت الطفلان اليها.. تبسمت.. بقي الطفلان صامتين. مشيا ناحية مدخل البناية. نسيت نفسها وهي تنزل الرصيف. غاصت قدماها في بركة ماء في الشارع. أحست بلسعة الماء البارد داخل حذائها. نادت مرة أخرى لين.. ماما.. علاء. قطعت الشارع من غير وعي. توقفت سيارة فجأة. كان صوت صرير عجلاتها مدوياً. ركضت اليهما. إحتضنتهما وهي تبكي. أخذت تقبلهما وتضمهما الى صدرها، وزفرات أنفاسها الحارة تخرج مع تنهداتها. أين كنتما؟ نظر الطفلان اليها بعيون مستغربة تملأهما الدهشة. بقيا صامتين. كانت تضمهما بكل حنان، وهما يشعران بحيرة.. لا يدريان شيئاً مما يجري.


لقد اشتاقت لهما كثيراً. لم ترهما منذ سبع سنوات. كل ليلة تحلم بهما. ما تزال صورتهما منطبعة في رأسها. إستقيظت في الليل على رائحة الغاز. اضطربت خوفاً. أيقظت غنام. نهض من فراشه وجرى للمطبخ. قفزت عن سريرها. لين نائمة في سريرها بكل هدوء، وعلاء في سريره الخشبي المشبك الصغير الى جانبها ووجه للاسفل على المخدة. انتابها خوف مرير مفاجيء. هزتهما بقوة. صرخت ماما.. ماما.. لم يستيقظا.. تسلل خوف مريع الى أعماقها .. رأت بوادر حركة على جفونهما المغمضة.. وأحست بأنفاسهما. إطمأن قلبها. جلست عند سريرهما تبكي. دخل غنام ووضع يده على رأسها وأخذ يهديء روعها.


ضمتهما الى صدرها أكثر. قالت والدموع في عينيها. أين كنتما. كنت أنتظركما كل يوم. هل نسيتما ماما؟ تحسستهما من معطفيهما أكثر. عادت الصور سريعاً كأنها تحدث الان. حين عادت للبيت في ذلك اليوم، لم تستطع فتح الباب.. كان هناك شيء ثقيل وراءه. بقيت تدفعه شيئاً فشيئا حتى إنفتح. لم تعرف ماذا جرى بعدها. حين فتحت عينيها كانت ممددة على السرير ومن حولها ستائر بيضاء. كانت أمها تمسك بيدها والممرضة تسجل في الاوراق على سريرها. لقد حطمتها الفاجعة. لم تحتمل بشاعتها. تعيش على المسكنات والابر المهدئة. لم تنهر أعصابها وحدها. لقد إنهار كل شيء في حياتها في غمضة عين. لا تزال الى الان ترفض التصديق. كيف طاوعه قلبه أن يفعل ذلك؟ أي بشر يمكن أن يفعل هذا؟ كيف استطاعت أن تسلبه تلك الاجنبية الشقراء عقله؟ كيف حولته الى وحش بلا قلب ليقتلهما بدم بارد؟ ما تزال صورة لين، وهي ترتمي على الباب، تحاول أن تفتحه قبل أن تلفظ أنفاسها، منطبعة في ذاكرتها. وعلاء يرقد على بعد خطوات منها مثل قطعة ثلج باردة.


أفاقت من شرودها على صوت ينادي عليها ويربت على كتفها. شكرا على إهتمامك بهما. أقدر كثيراً ما قمت به لاجل سلامتهما. كيف يتركانهما في الشارع هكذا؟ سأعرف كيف أتصرف معهم. ماذا لو لم أكن بالبيت؟ هذه المدرسة كلها فوضى. رن جرس مزعج قطع عليها حلمها. رفعت رأسها كان الظلام ما يزال يلف الغرفة والستائر مسدلة. فركت عينيها لم تتبين الوقت جيداً. حملت الساعة بين يديها. كانت الساعة الثامنة والنصف صباحاً! أحست بخيبة أمل. أسكتتها بقبضة من يدها، وعادت للنوم مرة أخرى. بقيت تتقلّب بقلق. وضعت رأسها تحت الفراش، وراحت تبكي في نشيج مكتوم متواصل.

* اللوحة أعلاه بعنوان صلاة لأجل المطر للفنان السوري الراحل فاتح المدرس 1922- 1999