الأحد، مارس 30

الوهـم

الوهـــم
قصة قصيرة
بقلم اياد نصار

دائرة ذهبية عريضة تتلألأ راقصة برشاقة فوق صدر الامتداد الازرق .. أوتار الماء تهتز في هدوء .. أنغام سيمفونية دائمة تتلاشى في الفضاء .. وأصابع العازف الرقيقة ترتفع لتتعانق في السماء، تتوحد في بقعة صفراء لامعة .. سرب من النوارس تقترب من السطح .. ثم تحلق وهي تشدو، وتخفق الاجنحة مع رجع الصدى.

الصباح قد ولد لتوه .. أمواج خفيفة تتراكض قادمة من الافق البعيد، تعلن موتها عند قدميه الغاطستين على الشاطيء بينما هو متكوم كتمثال لم يدع منه الزمن غير نصفه الأسفل، وأتى على كل تفاصيله. بدا كصخرة صماء قبل أن تلمسها يد النحات. كان رأسه يتكيء على يده كالمفكر.. عيناه تحدقان في لوحة السماء البعيدة على سطح الماء. لم يكن يبدد السكون المطبق الذي يطوي المكان سوى انكسار الامواج القادمة من بعيد وابتهاج النوارس.

يا لذاكرتي القوية! لم أكن أعرف أنني امتلك ذاكرة كهذه من قبل. تستعيد كل هذه التفاصيل بدقة. كانت تثيرني أقوالهم عن الذاكرة. حاولت كثيرا في الايام الخوالي أن أخفف من بلادة ذاكرتي .. لكن بلا جدوى، فهجرت التفكير في أمرها. قنعت بما لدي بعد عذاب طويل. أدركت أن كل انسان يولد بواحدة لا تعرف التغير. لكن يبدو أن الوهم قد عاد من جديد. انها ليست قوية .. فليس هذا سوى المشهد الاخير في حلمي. نعم .. قبل لحظات قليلة!

ضوء خافت ينبعث من ركن غرفة الفندق الغارقة في الظلام. لم تنفع معه كل محاولات اطفائه. حملق فيه قليلا .. تمتم بكلمات مبهمة يلعن طريقته في الاعلان عن وجوده. انه يفسد عليه النوم كل ليلة منذ أن وصل المدينة .. يقطع عليه حلمه احيانا .. يثير قلقه المتوطن .. يفسد جهده الشاق في اخماده. نهض من فراشه ..ضرب مفتاح النور بعنف، اشتعلت الانوار. ضربها ثانيةً فماتت مرة اخرى! الا ذلك الضوء الخافت! تردد في الغرفة صدى أصوات صاخبة. وجد نفسه يزيح الستارة المضطربة قليلا. لقد أصبحت عادة عنده .. لا يعرف لماذا يتجه الى الستارة دائما كلما قطع هذا الضوء نومه. حاول مرارا أن يقتل هذه الطقوس لكنها تبدو قد اصبحت عملا غريزيا .. ثم أنه لا يستطيع أن يأوي الى فراشه الا اذا ترك الضوء مشتعلا!! من العبث تفسير التناقض في حياتنا! لقد اصبحت عبثية ومتناقضة أحياناً الى حد لا ينفع معه التفسير والمنطق! يراودك شعور ان التفكير في التناقضات يزيد القلب مرارة على مرارته، وأن البحث عن ملاذ يريح العقل كمثل البحث عن المستحيل. لقد ازداد تبرمه من الحياة هنا مؤخرا. في كل مرة يتذكر تلك السنوات التي قضاها بعيدا عن هنا، يشعر انه يحلم!

نظر الى السماء. كانت مزيجا فريدا من السواد الموشح باللون الفضي .. لقد التهمت نصف القمر، ولم تترك للدنيا سوى نصف يصارع لاجل البقاء! استهواه المشهد. أحضر مقعدا ووضعه في مواجهة النافذة. راح يتأمل فيه .. امتدت خيوط فضية بين عينيه وبين ذلك النصف اللامع. أحس أن عالما آخر غير الذي عرفه يأتي في الليل .. كل شيء في الوجود يبدو مختلفا جديدا. شعر أنه قد تحرر من كل ما يحيط به، وانصهر في قلب العازف الصامت المتألق.

أصوات صاخبة ترددت مرة اخرى في غرفته، قطعت عليه تأمله. أحس بأنه ما يزال أمام النافذة. نظر الى ساعته.. لم ير شيئا.. أخرج يده من نافذته المطلة على القمر.. مد رأسه قريبا من الساعة. ضوء ساطع ينبعث من الطابق السفلي.. عادت الاصوات الصاخبة تقرع أذنيه .. انطلقت ضحكات عالية أثارت غضبه، فأغلق النافذة واسدل الستارة. همْهَمَ بصوت لم يسمعه.

لقد كانت الامور هادئة في الزيارة الماضية قبل سنة تقريباً .. كان الفندق يقبع في ركن بعيد منعزل من المدينة تحيط به الاشجار والمساحات الخضراء .. وكان يجد متعة في الجلوس في غرفته ليراقب الميناء من بعيد. كان بعيدا عن وسط المدينة .. راق له الهدوء والبعد عن صخب المدينة .. تذكر أن المبنى التجاري الملاصق للفندق كان مجرد رمل وحصى وجدران خشنة .. كان يثير في نفس نديم الرهبة والشعور بالعزلة في الليل عندما كان ينزل من غرفته ليتمشى حول المكان. غير انه كان يرتاح للصمت الذي يسوده. انه المكان الوحيد الذي يذكره بالهدوء في هذه المدينة. المدينة كلها مولعة بالضجيج والصراخ وابواق السيارات والضوضاء. تعود الناس فيها على حياة الفوضى واذا لم يسمعوا هذه الاصوات فانهم يخترعونها. لقد اصبح سائقو السيارات مدمنين على استخدام الابواق، واذا لم يجدوا سببا لذلك فانهم يطلقون زعيق البوق لاثبات الوجود لمن حولهم! لا يوجد مدينة تعكس مظاهر الانانية والفوضى مثلها، والاغرب ان سكانها يعتبرون أنفسهم أنهم خير من تسعى به اقدام وسيارات في العالم! يعتقد الناس انهم يموتون اذا اصيبوا بامراض او وقعت لهم حوادث، ولكن موت الروح في اجواء الصخب الاناني العنيف لا يعرفه احد. احيانا تبدو المدينة هادئة جميلة تثير الابتهاج، وفي أحيان أخرى تبدو جسما يعيش بلا روح!

ترددت الاصوات المدوية في أرجاء الغرفة فقطعت تفكيره .. قام الى طاولته .. أشعل سيجارة .. أزاح الستارة قليلاً .. كان القمر متوهجاً وقد بدأ يهبط نحو الافق المظلم. عاد الى فراشه مرة أخرى.. أخذ ينفث الدخان في قلب الظلام القابع كفيلسوف يصارع لاخراج فكرة من رأسه.. تململ في الفراش، فأصدر السرير صريرا كإنسان يكتم نشيجه. لم يجد شيئا يثير اهتمامه أو يحرك نفسه الخاملة. أخذ يستجمع الصور الباهتة في ذهنه بصعوبة: " حافلة تمتليء بمجموعة من الشباب تنهب الطريق نحو خليج العقبة .. أغاني الشباب والفتيات الذين تكدسوا في نهاية الحافلة تتردد عاليا .. عدد قليل من الشباب ممن ينفرون من هذا اللهو والصخب تناثروا في المقاعد الامامية، يحدقون في الاشجار المترامية على جانبي الطريق .. ويراقبون السيارات القادمة من الاتجاه الاخر.

كان الجو صافيا والحرارة معتدلة ، وبدأ البحر الواسع يقترب اكثر فأكثر ..أخذت العيون تراقب تلألؤ المياه التي تحتضن الشمس البرتقالية. نزل الجميع في الفندق الذي يقف مبتعدا قليلا عن نهايات الامواج المتراكضة .. نشر الظلام أستاره رغم الاضواء الكثيرة التي تناثرت على الشاطيء .. جلس الشباب والفتيات وهم يضحكون ويتمازحون ويعلقون بشكل عفوي ساخر على بعضهم بعضاً. حصى عديدة كانت تنطلق الى المياه فتولد دوائر صغيرةعلى السطح .. تتسع ثم لا تلبث أن تتلاشى. انقضت ليلة جميلة كان ينتظرها هذا الفوج الممتليء حياة ونشاطا باشتياق.

مع بداية الصباح التالي كان الجميع يستقلون الحافلة استعداداً للجولة .. مقعد فارغ أثار الانتباه .. تلفت الشباب الى بعضهم .. قالوا لا بد أن واحداً لايريد أن يأتي معنا .. انطلقت اصوات داخل الحافة .. تشابكت مع بعضها ثم انطلقوا .. وبقي المقعد فارغا.

على الشاطيء الذي بدأ يستقبل أشعة الشمس تكوم شاب قد استغرق في تأمل عميق. المكان خال من صدى الحياة البشرية.. وليس سوى هذا الذي يشبه صخرة سوداء من صخور الخليج .. كانت عيناه تراقب صورة الشمس التي تهتز مع حركة المياه حينا وحينا اخر تلاحق النوارس وهي تخفق بأجنحتها .. تقترب من السطح .. تصغي الى موسيقى الامواج .. تعانقها ثم تطير باتجاه الشمس".

بدأ ظلام الغرفة يتسلل الى الخارج ببطء .. اشعة الفجر الذي أعلن عن ميلاده أخذت تجد طريقها عبر شق الستارة .. بدأت ملاح اشيائه المتناثرة في الغرفة تظهر شيئا فشيئا. اشعل سيجارة ثانية ثم استدار ناحية الجدار الملاصق للسرير .. لم يكن يريد مشاهدة موت الظلام البطيء! كانت تغلف وجهه مسحة من حزن، وفي جفنيه بعض الانقباض.

ملأت أشعة الشمس أرجاء غرفته .. انكشف ملامح محتوياتها تماماً .. كل شيء بدا في غير مكانه الطبيعي هكذا أحس .. الا اللوحة المعلقة على الجدار .. كانت تثير احساساً غريباً بمدى كآبة الفنان.

جفل فجأة من على سريره .. لقد دوى صوت طرقة عنيفة مفاجئة في الجانب الاخر من الجدار .. هدر صداها في أذنيه كالرعد، فأحس لها بقشعريرة في بدنه. كان الدوي على وشك التلاشي حينما هدرت طرقة اخرى .. سمع اصواتا في الشقة المجاورة.. رمى بنفسه على الجدار وراح يضرب بكفيه، لكن احتجاجه ضاع في حمّى الطرق. بدا الامر غريبا وخاصة في الفندق. ولكن لا مجال للمنطق في عالم من الفوضى!

بعد قليل توقف الصوت، لكن أعصابه بقيت متوترة متشنجة .. ونفسه منقبضة حذرة .. يتوقع أن يدوي الصوت مرة أخرى في أية لحظة. مر وقت قصير وهو متأهب، لكن الصوت بدا كأنه قد خمد. نفث دخان السيجارة بقوة وهو يتنفس الصعداء. مشى نحو النافذة .. أزاح الستارة .. دخلت الاشعة الى الغرفة بقوة.. أخذ ينظر الى الشارع .. رفع بصره للسماء .. شعر أنها مختلفة .. ليست هي التي احتضنت القمر ليلة الامس .. أدار بصره هنا وهناك .. لعله كان يبحث عن بقايا القمر .. لم ير غير الشمس .. لم يستطع ان يحدق فيها .. فعاد يتفحص الشارع .. استرجع وهو يتأمل الشارع الذي بدأت تدب الحركة فيه صورة صديقه مرسومة هناك .. تذكر جمال الذي كان كالفيلسوف دائم التذمر من هذه المدينة القاتلة كما كان يسميها، وسخريته من عبوس الوجوه وتجهمها الدائم التي تثير الاحساس بالضيق والمرارة والاثم! ما تزال قصة جمال تثير في نفسه التساؤلات. كان في قمة عطائه وكان دائم التوهج، غير أن أحاديثه لم تعد تناسب هذا العصر. فكان الاصدقاء يهزون رؤوسهم بالاعجاب ويضحكون فيما بينهم!

أحس بوطأة الحزن المكتئب الممزوج بالامل في صدره .. أخذت ذكريات جمال وعاداته وابتعاده عن قلب المحيط الانساني الهادر تمر من امام عينيه مثل شريط سينمائي. كانت لقاءات الاصحاب مستمرة فلا يمضي اسبوع دون جلسة في المقهى حين يصل جمال ومعه اخر الصحف والاصدارات وهي متجعدة بين يديه والكتب قد تمزقت اغلفتها، ومع الدخان المتصاعد ورشفات الشاي تتصاعد الكلمات ويتحول كل حديث الى جدل سياسي مقيت! صار المكان شاهداً على لقاءاتهم الدائمة حول ذات الطاولة في تلك الزاوية العتيدة. ذات يوم وهو قادم الى هذا المكان لاحظ أن هناك عدداً كبيراً من الناس متجمهرين .. اقترب منهم يريد ان يستطلع الامر بذهول .. كانت الشمس في الاعلى ترسل اشعتها بكل بهاء وتألق على الرؤوس التي احتشدت .. نفذت بعض الاشعة من بينها .. فلمعت قطرات الدماء كقطع الزجاج المهشم. كان جمال على الارض يودع الحياة بابتسامة حزينة.. كتم نشيج بكائه فنزلت دمعة.

أحس بالاختناق .. شعر بغشاوة قاتمة تتشكل أمام عينيه الغائمتين.. رأى جدران الغرفة تقترب منه كأنما تريد ان تطبق عليه. وملامح الوجود خارج النافذة تتداخل في بعضها.. الشمس التي تصعد الى أعلى السماء رآها تتحول الى بقعة سوداء كبيرة.. دوت في أذنيه أصوات هادرة من كل صوب .. أخذ يفكر في الهروب من هذا السجن القاتم الذي يريد أن يبتلعه. غير ملابسه بسرعة متناهية .. صفق الباب خلفه وهبط المصعد مسرعا الى بهو الفندق .. ما تزال اصوات تطن في أذنيه .. اسرع أكثر .. خرج من الفندق الى الشارع .. ازدادت حدة الاصوات .. دوّى صوت بوق سيارة يصم الآذان.. خطوط سوداء ارتسمت على الشارع. صاح السائق يشتم ويلعن بينما غاب وسط البشر .. كانت حياته مسألة لحظة . اخذ يركض ويملأ رئتيه هواء من شارع الى اخر كالهارب الذي تطارده قوى خفية. بقي يتلفت هنا وهناك. شعر بالضياع وهو يبحث من شارع الى اخر ومن زاوية الى اخرى. وفجأة أشرقت أساريره بالامل والتمعت عيناه تحت ضوء الشمس. كان الفوج منهمكا بالنظر الى واجهات المحلات واطلاق الضحكات .. ندت عن شفتيه ابتسامة وهو يلوح لصفاء وحسام.. كان الشباب يلبسون القبعات الملونة تحت اشعة الشمس الحارقة . تباطأت خطواته اتسعت ابتسامته.. ظهرت اسنانه البيضاء.. غمز صفاء بعينيه وهو يبتسم. توقفت .. ندت عنها ابتسامة .. أخذا يسيران معا .. كان يلتفت فجأة بين حين وأخر ليختلس نظرة الى صفاء ، فتلتقي عيونهما في ضحكة خجلى .. ثم اختفيا في زحمة الناس.

الجمعة، مارس 28

وردة حمـــراء اليها


وردة حمــــراء اليها

قرنفلة حمراء نبتت الليلة على شرفة القمر

والليلك يمتد من راحتيك الى افق البصر

يا عمرنا الضائع بين حكايات الهوى والضجر

تهرب منا الامكنة وتصمت احاديث السمر


كم طافت بنا أحلام المساء وأشرقت الذكريات

يا روعة الذكرى حين تخنقنا الدموع والابتسامات

أرى في عيونك الشوق وبقايا الامس الفاتنات

وأحس بالضياع من الشك في أنين الكلمات


كم تغار حوريات البحر من رقة اجفانك الناعسة

وتضيع مني حين اغني لعيونك الالحان الهامسة

أعشق روحك لترد أملا الي حياتي اليائسة

هوانا سيعيش برغم كل الظروف البائسة


ايـــاد

الاثنين، مارس 24

شــــــراع


شـــــــراع

بين مَدِّ الشوقِ وجَزْرِ التردد يتحدى شراعُك البحرا
يا لرهبةِ الامل في عينيكِ تنشرُ في الدجى فجرا
وخوفُكِ الساكنُ في الاعماق استبدَّ تجبُّرا
حلقَّتْ بفضاءِ الشوقِ مع حريرِ الشمس نوارسٌ
وتاه في بحرِ الهوى مجدافُنا وانكسرا

أَودتْ بسحرِ صوتِكِ الرقيقِ الهواجسُ دهرا
حبّكِ ليس شيئا طارئا ولا هوىً عابرا
حبّكِ تعمَّد في القلبِ وسكنَ الروحَ قَدَرا
وردةٌ نبتتْ في ليلِ العمر للبوحِ نجوى
فأورقتْ الاحلامُ حنيناً يضمُّنا ويغمرنا غمراً

امنحيني فؤادَكِ واعيريني في ظلامِ الحياةِ قمرا
دعيني التمس من سحرِ عينيكِ عمرا
تضمُّك في ليلِ الشوق أجفاني سرا
وتعانِقُكِ في ندى الصباح من وراء الحواجز يدي
يا منى الروح حين يتحولُ الاحساسُ في القلبِ فِكْرا

يا قمراً اشعلَ الدروبَ في آهاتِ ليلي جمرا
فنبتتْ على شراعِ زورقِنا ياسمينةٌ تنشرُ العِطْرا
وعزفتْ قيثارةُ الحياةِ في هدوءِ الليلِ سحرا
سرحتْ افكاري في زرقةِ بحرِ عينيكِ السماوي
ورسمتْ كلماتي على شراعِكِ عندَ العاصفةِ شعرا

ايــاد

الجمعة، مارس 21

عادات صغيرة

قصة قصيرة
بقلم اياد نصار

عـادات صغـيرة

خرجت من باب المحل تحمل اكياساً .. تلفتت هنا وهناك .. كانت قطرات المطر تتساقط برقة وهدوء فتلتمع الاضواء في عينيها .. ركضت في اتجاه سيارتها رمت باكياس الملابس التي ابتاعتها للتو على المقعد الخلفي .. شعرت بفرحة كبيرة .. منذ كانت فتاة صغيرة وهي تعشق التسوق وبالذات شراء الملابس الجديدة .. خزانتها تنوء بالفساتين والاطقم والمعاطف من كل لون وشكل .. ولكنها تعشق تغيير ملابسها كل فصل .. تركن القديم في زاوية لينتهي أمره هناك .. المسألة حيرتني كثيرا .. فهي تشتري ليس حبا في الشراء رغم انها تعشق ان تشتري كل ما يحلو لها ! وليست للمظاهر رغم انها لا تخبيء عنهن خبرا بخصوص أي شيء اشترته، ولكنها تحب أن تبدو أجمل ما يكون امام صديقاتها .. وتحب ان تخبرهن كلما عادت من جولة من السوق! المسألة أعمق من ذلك.

كانت الدنيا مساءً وفي الجو برد لطيف ينعش الجسم وخاصة بعد شتاء طويل كئيب. الطقس صورة مزاج الانسان ونفسيته. ويبدو انها تحس بنشاط يعود لروحها بعد خمول طويل من البيات الشتوي. ورغم نسمات الهواء الباردة وقطرات المطر فقد خرجت الى المكان الذي تعودت ان تشتري منه دائما. تحب ان تتمشى في هذا الشارع وتنظر الى واجهات المحلات لتعرف اخر ما طرحته دور الازياء من اشكال والوان. تعشق هذا الشارع كثيرا. يعتقد الناس انه اصبح مكانا لأغلى واشهر دور الازياء التي تنتشر على جانبيه وقد تم تحويله الى مكان للمشاة. كان عدد من الناس يجلسون على المقاعد الخشبية التي تم وضعها بعناية وحولها مساحات قليلة كالجزر الصغيرة وضعت فيها بعض الشجيرات وسط مساحات واسعة من الاسمنت والحجر لاضفاء رونق جمالي ولمسة فنية على المكان. تساءلت هل تعرف كل هذه السيدات هذه الاسماء التي لا تجد من بينها إسماً عربياً أو حتى مكتوباً بحروف عربية؟! تذكرت بحثاً طريفاً قام به زميل اثناء الدراسة في الجامعة حول سبب انتشار الاسماءالاجنبية في الشوارع وأجرى فيه مقابلات مع اصحاب المحلات للتعرف على سبب اختيار التسمية! كان بحثا غريباً يستحق ان يتناوله المتخصصون في دراسة علم النفس والسلوك البشري! لا أريد أن ابدو اسيرا للماضي يندب حال اللغة العربية ، فأنا من انصار التجديد وتطور اللغة ولكن هوية المدينة مُحِيت وخصوصيتها ضاعت وصارت وكالة فرعية لسوق عالمية! أخذت أفكر بالامر .. هل الاسماء الكبيرة أساس الاختيار؟ أم هل ارستقراطية المكان هي الدافع وراء الاختيار؟ هل الجودة والتميز هما فعلا اساس الاختيار لدى السيدات؟ وهل تعرف هولاء طريقة للتأكد من ذلك في زمان صار يهتم بالغلاف وطريقة العرض وتأثير الالوان والاضواء؟

لو انتقل احد هذه المحلات الى مكان اخر عادي الملامح واقل جمالا من هذه الاشكال المعمارية الجميلة والتحف وفنون الديكور فهل يبقى جذابا فاخرا في نظر تلك السيدات؟ كم تلعب اثارة الحواس دورا في سهولة الاقناع؟!

لا أريد أن اشغلك بأحاديثي وتساؤلاتي وفلسفاتي ، لكن سلمى لديها فلسفة غريبة في شراء الملابس .. لا يوجد في المدينة كلها سوى عدة محلات محدودة تعد على اصابع اليد الواحدة التي تستحق الدخول اليها .. واذا لم تجد مبتغاها يبدو عليها الحزن والتبرم والغضب .. وتبدأ تبحث عن اسباب ترميني بها فأنا المسؤول فيها عما حدث .. وهذا لغز آخر حيرني كثيرا .. فعندما أذهب معها في جولة تسوق أحس تماما بما تقوله وأتفهم انه ليس سوى تلك القلة القليلة التي تستحق الدخول اليها والشراء منها! ربما أثرت في من غير أن ادري وربما تعاطفي معها هو السبب! ولكنني حين اعود لمنطقي وافكر بالامر مليأ استغرب من أين يشتري كل هولاء البشر! وحينها اقول لها متسائلاً : ومن أين تشتري كل هذه الملايين من النساء ملابسهن، تقول ان ذوقها لا يناسبه اي شيء! بل أنها هي ذاتها تستغرب من اين تشتري كل هذه السيدات ملابسهن!! وصرت اعرف ذلك فلا اناقش الامر لانه محسوم بالنسبة لها. ولا تظنَّ أن اقتراب مناسبة ما أو قدوم فصل جديد أو سواه سيكون عامل ضغط عليها، فهذه ثوابت لا تتنازل عنها، بل تتنازل عن شراء الملابس الجديدة عن أن تذهب لمحلات او اماكن اخرى!

يستهويها كل ما هو غريب ونادر. تحلم ان تشتري كل ما يعجبها. الثمن آخر ما تفكر به. القطع الجميلة تستحق، كما أن الثمن عندها هو مقياس مهم. القطع الرخيصة التي تراها في بعض المحلات تزدريها. القطعة التي تصبح في متناول الجميع لا قيمة لها عندها وتفقد أهميتها. غريبة الاطوار أحياناً ، فكم تتعلق بالفستان او الثوب الذي يعجبها وتسوق كل المقدمات لتبرير شرائه وأحيانا تبقى أياما تفكر وتحسب كيف ستشتريه. بل ستنتظر موسم التنزيلات للحصول عليه اذا لم تتمكن من شرائه! ولكن عندما ينتهي دوره تتخلى عنه بكل سهولة. بمجرد ان ينتهي موسمه ينتهي كالجثة في المقبرة التي لا يريدها احد! ولكن برغم هذه القناعات التي قد تثير الاعصاب احيانا الا أنني لا اشك ان ذوقها جميل، وقد عرفت ذلك عبر كثير من المواقف وتأكدت منه. لهذا انسحبت مستسلما من اختيار اية قطعة منزلية او تحفة او ملابس سوى ملابسي الشخصية التي لا زلت اتمتع بحرية الاختيار فيها! وحتى هذه مرت فترة كنت أخاف عليها ولكنني في النهاية تمكنت من تثبيت حقي فيها! وأما ما عدا ذلك فقد صار من حقها واختصاصها! ولو فكرت بتجاوز صلاحياتي واعجبتني قطعة منزلية ما وتهورت بشرائها حبا بها ودفعت بها ثمنا باهظا، فستنتهي في المخزن او في زاوية الاهمال وربما اسرع الى ارسالها الى احد اعرفه ليستفيد منها احسن من أن تظل ملقاة هكذا كالخزانة المهجورة!

قادت سيارتها الى بيت صديقتها الحميمة القديمة، فهذه طقوس مقدسة. بعد شراء الملابس الجديدة ليس هناك عندها اجمل من تناول فنجان قهوة وسيجارة مع تمارا. وعندها يبدأ حديث الشراء والتسوق والمحلات والالوان والاشكال والاذواق. وهي الاخرى لا تقل غرابة عنها في طقوس الشراء لديها. إذا كان هناك أي شيء استهواها فانها مستعدة ان تدفع فيه أي مبلغٍ حتى لو كان خياليا، وربما ترميه في اليوم التالي او تعطيه لصديقة إذا وجدت انه لم يكن كما توقعته أو تغير مزاجها فيه! وانا كنت افكر انه نوع من التبذير او التسرع في الشراء، ولكن بمرور الوقت صارت لدي فلسفة مؤداها ان متعة الشراء لا يعدلها عندها شيء وتستحق هذا الثمن! اذا اردت ان تعرف مزاجية المرأة عن قرب وعن تبدل اذواقها ورغباتها بهذه السرعة فانظر الى سلوكها في شراء ملابسها! لم ار في حياتي امرأة مثلها تجد متعتها الاقرب الى نفسها في ان تخرج للتسوق وان ترى البضائع المعروضة في واجهات المحلات وان تدخل اليها لتجربها وتسأل عنها. وهذه احدى طرقها لتبقى على اتصال بعالم الازياء والموضة!

لكن لديها احساس بتناسق وجمال الملابس وروعة اختيار الالوان .. وعندما ترى اختياراتها تبدأ تدرك فلسفتها.. لم يكن الامر سهلاً .. لكنني توصلت الى فهم فلسفتها في الاختيار وصرت أدرك لماذا لا تضع السعر واحداً من بين معاييرها في الاختيار!

في الاسبوع التالي وبينما كنا نسير في ذات الشارع رأت محلا يبدو عليه انه قد أُفتتح للتو. كان الاسم فرنسيا ولم يكن هناك سوى عدد محدود من قطع الملابس. قلت يبدو انه ما زال يجهز لعرض البضاعة فليس هناك سوى قطع معدودة هنا وهناك. قالت لا .. وأضافت هذا هو الاسلوب الصحيح الجديد في عرض الملابس. ان المحلات التي تعرض كل شيء وتكدس البضاعة ليس لديها ذوق. سكت وأنا اتمعن في هذه الفلسفة. أخذت انظر الى الاسعار . أسعار خيالية .. شيء لا يصدق حتى في باريس نفسها. قلت لعل هذا هو السبب انه لا يوجد أحد غيرنا في هذا المحل! يبدو لي ان المحل يقنع ببيع قطعة واحدة في الشهر! كان الامر بالنسبة لي مبالغا فيه. لقد قالت انه فعلا كذلك ولكن القطع جميلة ولو كان لديها ما يكفي لاشترت فورا! بدا علي التبرم وبوادر الغضب. فخرجنا من المحل. بقيت اسبوعا كاملا لا حديث لها الا ذلك المحل وتلك القطعة اللعينة. شعرت ان دخلي في شهر كامل لا يكفي لشرائها.

مضى اسبوعان او اكثر لم نذهب فيه الى ذلك الشارع. وفي ذات امسية باردة بينما كنا نتمشى فيه نريد شراء ملابس لابنتي الصغيرة مررنا صدفة بذاك المحل .. كان فارغا وكان العمال يغيرون شكل الديكور ويقومون بتركيب ديكور جديد ووضع لوحة جديدة للمحل! شعرت بفرحة فهذا يثبت وجهة نظري فقد هجره الناس وقتلوا طموح اصحابه في مهده وسبب لهم ذلك خسارة جعلتهم يرحلون سريعا. دخلنا الى المحل المجاور اثارنا الفضول لمعرفة سبب ما يجري في ذاك المحل. قالت لنا شابة وهي تبتسم. لقد باعه اصحابه وصفوا الملابس فيه قطعة قطعة بسبب السفر الطاريء! وأضافت لقد اشتراه تاجر آخر وعلى ما يبدو فقد اشترى وكالة ملابس باريسية أخرى! تدخلت عندها وقلت إن اسعارهم كانت شيئاً غير مألوف ، ولا بد أنهم خسروا خسارة كبيرة! وبدت مني التفاتة خجولة سريعة نحو سلمى وقلت أعتقد انهم لم يجدوا مغفلين مثلنا يشتروا من عندهم. ابتسمت الفتاة وقالت سمعت ان المالك الجديد قد تعاقد مع وكالة أغلى من الاولى!

خرجنا وبعد قليل نسينا التفكير به، لكن كلانا شعر براحة كبيرة لانه رحل! بعد ساعة كنا قد فرغنا من شراء ملابس ليلى فقد ترسخت عاداتنا الصغيرة في شراء الملابس على حسب قناعاتنا المشتركة التي ارتسمت معالمها عبر السنين! فهناك شيء ايجابي لم ادرك اهميته الا بعد زمن طويل، فقضية التسوق محصورة ومحسومة في هذا الشارع ولم تعد تسبب لي التعب او المشي الطويل! وهذا شيء يتمناه الرجال كثيرا! كانت نسمات الهواء المنعش تهب لطيفة خفيفة، واضواء الشارع الصفراء تلوّن المكان في الليل بلون آخر غير لونه في النهار. كان هناك عدد قليل من الناس تمشي في الشارع. لفت انتباهنا فجأة وجود تجمع للناس يقفون في دائرة كبيرة وكانت هناك كاميرا تسجيل تلفزيونية يحملها شاب تدور في الارجاء وتسجل وشاب ضاحك يحمل ميكروفونا يتحدث من خلاله. لم نفهم ماذا كان يقول أو لماذا كان كل هولاء الناس متجمعين حوله ، فقد كان صدى الصوت يسبب تشويشاً. خلال لحظات كانت السيارة تقلنا عندما رن الهاتف النقال واذا بأبنتي الاخرى تتصل لتذكرني أن غداً هو دورها هي في الشراء من نفس المكان!

الخميس، مارس 20

ســـيدة المســـــاء


ســـيدة المســــــاء

كنت في السنة الثالثة بالجامعة عندما سمعت باسم الشاعر العراقي ياسين طه حافظ ورأيت دواوينه لاول مرة، فقد أهدى استاذي جوزيف جون الذي كان يدرسنا مادة الشعر الانجليزي في القرن السابع عشر والذي اشتهر باسم الشعر الميتافيزيقي وخاصة قصائد جون دن وجورج هربرت ، اثنين من دواوينه التي كانت قد صدرت حديثا عن دار الشؤون الثقافية العامة التابعة لوزارة الثقافة والاعلام ببغداد. وقد شعرت من خلال قراءة الاهداء على الديوانين انه يعرف استاذي ويكن له كل التقدير والاحترام، وخمنت انه ربما درسه هو ايضا في الجامعة، فقد كان كبيرا في السن وكانت ابنته الوحيدة التي ترافقه في اسفاره وتنقلاته تدرس معنا في نفس السنة.

وقد طلب مني استاذي أن اترجم له بعض القصائد كي يقرأها ويتذوقها فقد كان يعرف عن اهتمامي بالترجمة الادبية، حيث أطلعته على بعض ترجماتي للقصص القصيرة وبعض القصائد من الادب الانجليزي والامريكي. وعندما قدمتها له، فقد سر كثيرا بها وكنا نجلس في المساء نراجعها حيث كان يسألني كثيرا عن المعاني والصور ويناقش معي مضمون القصيدة بالعربية، فقد كان يحرص على ان تصله القصيدة كما هي بنصها وروحها، ولهذا كان كمن يمتحنني ويمتحن فهمي للقصيدة باسلته الكثيرة، ولا زلت احتفظ بتصحيحاته وملاحظاته على الترجمة، وهذا كان يضع على عاتقي مسؤولية كبيرة تتطلب استيعاب العمل والتفكير به مليا قبل الشروع في نقل الفكرة للانجليزية.

وقد أخبرني استاذي فيما بعد أنه كتب لصديقه الشاعر ياسين طه حافظ يخبره بما قمنا به‘ فجاءه الرد بالثناء والتقدير مشفوعا بكتب صادرة في بغداد فيها قصائد مترجمة لشعراء عراقيين ومن ضمنها قصائد مترجمة له كي يقرأها ويتعرف الى عالمه الشعري. وعرفت انه ليس شاعرا وحسب بل مترجما للشعر وكان يرأس تحرير مجلة الثقافة الاجنبية.

وقد وجدت في شعره عالما من الايحاء الرمزي الذي يجمع بين الاساطير ومفردات البيئة العراقية بكافة اشكالها وتوظيف حالات انفعالات الطبيعة واصواتها في قصائد وجدانية عاطفية تمزج بين الحزن الفلسفي والحب التأملي والاحتفاء بجمالية الحب وسحر المرأة الغامض.

ومن ديوانه المسمى " قصائد السيدة الجميلة" فقد اخترت ان اضع هنا هذه القصيدة بعنوان " سيدة المساء" التي تعبر عن عالمه الشعري واسلوبه، ويليها ترجمتي لها الى اللغة الانجليزية.


ســـــيدة المســـــاء

شعر: ياسين طه حافظ


أيتها السيدة التي تضيء الآنْ

أرى الممالك التي أتيتِ منها وأرى

القلاعَ والانهارَ والفاكهةَ التي

جفَّت على الغصونْ


ارى وراء وجهك القبائلَ الضائعةَ،

القرى التي تنام في المساءْ،

ارى البيوت الطينَ والصبيّةَ

البراقّة العينينِ يشتهينَ،

أو يحسِدْنها، النساءْ.


أرى التي من أول النضج أتتْ

وقبّلتها امرأةٌ بارعةٌ عرافّةٌ

فأزهرت تفاحةٌ وطار عصفور من النار

ولاحت شعلةٌ على النهَرْ.


أراكِ بعد أنْ

هاجرت الاشجارُ وامّحت

عشرة انهارٍ وضاعت القرى

واعترضَتْ بوابةُ المساء.


يافعة ً اراكْ

ناضجةً أراكْ

انملُكِ الناعمة المقتدرة

تنضجُ ما تلمسهُ ...

فكل شيء هاديءٌ يحمل خصبَهُ

وصيفَهُ ... وينتظرْ.

مشرقة ما بيننا

تُعَجّلين المدْ

وتخلطين الريح والنجمة والظلام

في هذه الغرفة كل شيءْ

يهدأ، والوجوه بين الضوء والظلِّ

وبين الصمت والكلامْ

هذا المساءُ الابديُّ ساكنٌّ

في أول الليل وفي آخره،

أسمع موسيقى الزمان وأنا أصغي اليكِ،

وأرى الأسى الجميلْ.


تباعَدتْ واختفت القرى

وضاعت الوجوه والأشجارْ.

يلتمع الجمالُ،

هذه بقية الحياة.


أرى الى وجهك عاتباً

أو مُشْفِقاً ، يمنحني محبّةً

وفرحاً أخيرْ.

تعلقّتْ روحيَ بالأنامل الناعمة البيضاء

أريد أن ادنو لها، اريد أن

أبعد من هذا الفناء الناعم البطيْء

هذي سهوب الصمت

قريبةٌ، وهذه بوابة المساءْ.


أمام وجهك النبيل، في بداية

الغيبوبة الشاحبة البيضاء

اظل واقفاً

عوداً يبيساً خاسراً

تعبر من أمامه

أوراقه الخضراء.

عارية الزندين كنتِ، وجهك الجميلْ

مُكْتَتِمٌ وفاضحٌ رغبتَهُ

وقلقَ العبورْ.

يخفت ذاك الضوء،

تحديثينني

عن عِوَزٍ في الروحْ

عن جزر متربة تطفو على الزمانْ

عن كَدَر حَجَرْ.


أيتها العوالم التي انتهت الى التراب عطشاً،

ايتها الازمنة الظامئة اليوم أراكِ كومةً

تجتمعين في حديقة خالية

وراء هذا البيتْ

وظلك الكبيرْ

وراء هذي الغرفة الصغيرة

وراء هذا الوجهْ،

وراء هذي الكأس

واللوحةِ

والنيونْ.


أكل ما ضاع، هنا ينتظر البقيه؟

ينتظر التفاتة غاضبةً

ينتظر انكسارَ ضحكةٍ

ينتظر انطفاءَ هذا الوجهِ

وانطفاءنا؟

ثم نكون في حديقة اخرى،

وراء غرفة اخرى،

ووجهٌ آخرٌ يضيْء؟


ايتها السيدة الجميلة التي احبُّ والتي

أموت في ضيائها،

يا باقةً من زهرٍ مشتعلٍ الى الابدْ

تحملها الرياحْ

من زمنٍ لزمنٍ

من بلدٍ الى بلدٍ،

يا كلَّ ما نملكُهُ

يا كل ما نخسرُهُ

يا إرثنا الوحيدْ

حين يمر الجمع من بوابة المساءْ.


يظل هذا الضوء

ما بين قلبينا

شفاعةً نبيلةً قبل غروب الشمس ..

ترجمة: اياد نصار

The Lady of the Evening

O Lady, you who shines now.

I can see the kingdoms where you came from, the

Citedals, the rivers, and the fruits that

Withered on the branches.

I can see behind your face the lost tribes,
The villages that sleep in the evening;

I can see the mud houses and the bright-eyed girl

Whom women desire

Or envy.


I can see her who came in the dawn of maturity

Whom the wise claivoyant woman kissed

So an apple blossomed, a sparrow came out from the fire,

And a flame twinkled on the river.


I see you from the time when

The trees departed, ten rivers dried up,

The villages were lost,

The gate of the evening stood in the way.


You look grown up to me,

Mature

Your tender and puissant fingers

Bring mellowness to eveything they touch.
Everything is calm, bearing its fertility and its

Summer... and waiting

You look bright among us.

You speed up the floods and

Mix the wind, the star, and the darkness together.

In this room everything settles down; the faces are

Between the light and the shadow,

Between silence and speech.

This eternal evening is calm.

At the beginning of the night and at its end

I hear the music of the years when I listen to you

And I see sorrow

In the beautiful joy.


The villages were separated and gone.

The faces and the trees were lost.

Beauty radiates.

This is the remainder of life.


I see blame in your eyes

Or pity. They endow me with affection

And a last joy.

My soul is affectionately attached to the sweet and white fingers.

I want to come close to them. I want to escape
From this slow and delicate obliteration.
Here, the plains of silence

Are approaching, and here is the gate of the evening.


I remain standing
Before your noble face at the beginning

Of the white and pale fainiting

Like a deprived and dried twig

When its green leaves

Pass in front of it.

You were bare-forearmed. Your beautiful face is
Discreet but revealing a desire

And the worry of traversing.

That light is dying out.

You talk to me about a want of the soul,

About destitute islands, floating over the surface of time,

About the turbidity of a stone.


O, You Worlds which died thirsty.

O, You Thirsty times. I see you today like a heap

Gathering in an empty garden

Behind this house,
And your great shadow is

Behind this small room,

Behind this face,

Behind this chalice,

And the Canvas,

And the fluorescent lamp.


Is it that all that is lost is waiting here for the rest?

Waiting for an angry look,

And a broken smile

Waiting for the dying out of this face
And ours?

Do we find ourselves in another garden

Behind another room

And another face shining?


O, You beautiful lady whom I love,
In whose radiance I die.

You are a wreath of flowers, burning forever, and

Carried by the wind from one time to another,

From one country to another.

You are all we own and
All we lose.

You shall be our only inheritance

When the crowd has crossed the gate of the evening.


This light remains

A nobel mediation between our hearts

Before the sunset.

الجمعة، مارس 14

ابن زيدون: قصة حب أندلسية


بقلم: اياد نصار
لم تكن قصة حب عادية كباقي القصص، ولكن قصة حب عنيفة مؤثرة امتزج فيها الوفاء بالعتاب والاخلاص بالهجران والتحول بالنأي والصد والاقتراب بالاغتراب وحالات الحب المختلفة بمكائد السياسة. كانت قصة حب تفجرت مواهبها في بيئة ثقافية غنية التقى فيها الشرق بالغرب والقديم بالجديد وقوة السلطة برقيق الشعر، وتفجرت المشاعر في ارض حالمة بجمالها وفنونها وتطورها الفكري والعمراني فكانت تجسيدا لدور المرأة الجديد في الادب العربي. في تلك البيئة الشاعرية التي عرفت التحولات والتحالفات وانقسام الدول والطوائف برزت مرحلة فريدة في الادب العربي، فبرغم الانقسامات والاضطرابات السياسية ومحاولات الاستيلاء على الحكم المتكررة والاغتيالات وبرغم التهديدات الخارجية المتوالية، فقد ولدت حاضنة ثقافية فكرية علمية ادبية اتسمت بالنشاط والازدهار. وكان الامراء والخلفاء يشجعون الشعر والادب والغناء والفن بأنواعه، وساهمت الطبيعة الجميلة باجوائها الساحرة في ازدهار عصر الاندلس الثقافي.

في هذه البيئة وفي هذه الاجواء التقى الشاعر ابن زيدون الاندلسي بالاميرة الشاعرة ولادة بنت المستكفي في النصف الاول من القرن الحادي عشر والتي كانت قد اقامت صالونا ادبيا لشعراء وادباء عصرها، وكتبت قصائد اخترقت فيها القيم الاجتماعية السائدة فكتبت الغزل في عشاقها واستخدمت لغة جريئة في العشق ووصف لقاءات الحب الحميمة. احبها ابن زيدون وأحبته وقامت بينهما علاقة قوية تفجرت على شكل قصائد رائعة، وتبادلا الحب الجارف العنيف. غير ان مكائد السياسة التي اتهم بها ابن زيدون بذريعة مشاركته في التآمر وتبدل نظرة الولاة منه وضعت حدا لطموحات ابن زيدون، كما أن ولادة تحولت عنه لانها احست انه لم يحسن التعامل معها كأميرة وقيل انه عشق جاريتها، فانصرفت عنه الى احد خصومه الشاعر ابن عبدوس الاندلسي.

واضطرت الاحوال السياسية ابن زيدون الذي كان في يوم من الايام وزيرا أن يزج به في السجن في قرطبة، وفشلت كل محاولاته في استرحام قلب امير قرطبة كي يخرجه من السجن، فهرب من قرطبة الى اشبيلية، وقد استطاع ان يصل مكانة مرموقة لدى أميرها، لكن حبه بقي يعاوده وحنينه الى ولادة بقي يعذبه من حين لآخر. واستمر يستعطف رضاها وحبها. كتب ابن زيدون اجمل القصائد وهو بعيد عن ولادة حبه الاول وعن قرطبة المدينة التي أحبها و شهدت تحقيق بعض طموحاته السياسية ووصوله الى مناصب عليا. بقي ابن زيدون مستمرا على حبه الى ولادة، وارسل اليها اروع القصائد التي عرفها الشعر العربي، ولكن ولادة امعنت في صدها وهجرانها حتى احترق قلبه اسى وحزنا من فراقها، ولكنه بقي على وفاء حبه لها يؤكده مرارا وتكرارا في قصائده، ولم يتغير قلبه او يتحول ورغم ما لاقاه منها من صد وتحول فقد بقي على حبه وولائه لها.

ومن قصائده الجميلة التي تصور معاناته وتشوقه الى لقاء ولادة هذه الابيات المشهورة:

ودع الصبر مُحِب ودعـــك
ذائعٌ من سرِّه ما استـودعك

يقرعُ السن على أن لم يكــــن
زاد في تلك الخطى إذ شيَّعك

يا أخــا البـدر سنــــــاءً وسنــا
حفـــــظ الله زمـانــاً أطلعـــك

إن يطــل بعـــــدك ليلـــــــي
فلكم بت أشكـو قصر الليل معـك

كتب ابن زيدون الكثير من القصائد في حب ولادة وبرغم مشاعر الاسى والحزن على البعد عنها وصدها له، الا انه لا يخفي احتفاؤه الواضح فيها بجمال الطبيعة الاندلسية بسحرها الخلاب. وفي هذه القصيدة بذل ابن زيدون كل جهد ممكن في اظهار حبه الراسخ لولادة ووفاءه واستمرار اعتبارها مصدر الهامه والاشادة بحفظه عهدها وبقائه على رابطة الحب التي جمعته بها يستمد منها الوفاء والامل رغم ما ناله منها.

أَضْحَى التَّنَائِي بَدِيْلاً مِنْ تَدانِيْنا ------------ وَنَابَ عَنْ طِيْبِ لُقْيَانَا تَجَافِيْنَا
ألا وقد حانَ صُبح البَيْنِ صَبَّحنا -------------- حِينٌ فقام بنا للحِين ناعِينا
مَن مُبلغ المُبْلِسينا بانتزاحِهم ------------- حُزنًا مع الدهر لا يَبلى ويُبلينا
أن الزمان الذي ما زال يُضحكنا ------------- أنسًا بقربهم قد عاد يُبكينا
غِيظَ العِدى من تساقينا الهوى فدعوا -------- بأن نَغُصَّ فقال الدهر آمينا
فانحلَّ ما كان معقودًا بأنفسنا ------------ وانبتَّ ما كان موصولاً بأيدينا
لم نعتقد بعدكم إلا الوفاءَ لكم ----------------- رأيًا ولم نتقلد غيرَه دينا
ما حقنا أن تُقروا عينَ ذي حسد ---------- بنا، ولا أن تسروا كاشحًا فينا
كنا نرى اليأس تُسلينا عوارضُه ------------ وقد يئسنا فما لليأس يُغرينا
بِنتم وبنا فما ابتلت جوانحُنا ---------------- شوقًا إليكم ولا جفت مآقينا
نكاد حين تُناجيكم ضمائرُنا ------------- يَقضي علينا الأسى لولا تأسِّينا
حالت لفقدكم أيامنا فَغَدَتْ ---------------- سُودًا وكانت بكم بيضًا ليالينا
إذ جانب العيش طَلْقٌ من تألُّفنا --------- وموردُ اللهو صافٍ من تصافينا
وإذ هَصَرْنا غُصون الوصل دانية ----------- قطوفُها فجنينا منه ما شِينا
ليسقِ عهدكم عهد السرور فما -------------- كنتم لأرواحنا إلا رياحينا
لا تحسبوا نَأْيكم عنا يُغيِّرنا --------------- أن طالما غيَّر النأي المحبينا
والله ما طلبت أهواؤنا بدلاً ------------- منكم ولا انصرفت عنكم أمانينا
يا ساريَ البرقِ غادِ القصرَ فاسق به -- من كان صِرفَ الهوى والود يَسقينا
واسأل هناك هل عنَّي تذكرنا ---------------- إلفًا، تذكره أمسى يُعنِّينا
ويا نسيمَ الصِّبا بلغ تحيتنا ------------- من لو على البعد حيًّا كان يُحيينا
فهل أرى الدهر يَقصينا مُساعَفةً ------------- منه ولم يكن غِبًّا تقاضينا
ربيب ملك كأن الله أنشأه -------------- مسكًا وقدَّر إنشاء الورى طينا
أو صاغه ورِقًا محضًا وتَوَّجَه --------- مِن ناصع التبر إبداعًا وتحسينا
إذا تَأَوَّد آدته رفاهيَة ------------------- تُومُ العُقُود وأَدْمَته البُرى لِينا
كانت له الشمسُ ظِئْرًا في أَكِلَّتِه ------------- بل ما تَجَلَّى لها إلا أحايينا
كأنما أثبتت في صحن وجنته ------------ زُهْرُ الكواكب تعويذًا وتزيينا
ما ضَرَّ أن لم نكن أكفاءَه شرفًا ----------- وفي المودة كافٍ من تَكَافينا
يا روضةً طالما أجْنَتْ لَوَاحِظَنا ------- وردًا أجلاه الصبا غَضًّا ونَسْرينا
ويا حياةً تَمَلَّيْنا بزهرتها ------------------ مُنًى ضُرُوبًا ولذَّاتٍ أفانِينا
ويا نعيمًا خَطَرْنا من غَضَارته --------- في وَشْي نُعمى سَحَبْنا ذَيْلَه حِينا
لسنا نُسَمِّيك إجلالاً وتَكْرِمَة ------------ وقدرك المعتلى عن ذاك يُغنينا
إذا انفردتِ وما شُورِكْتِ في صفةٍ ------ فحسبنا الوصف إيضاحًا وتَبيينا
يا جنةَ الخلد أُبدلنا بسَلْسِلها ------------ والكوثر العذب زَقُّومًا وغِسلينا
كأننا لم نَبِت والوصل ثالثنا --------- والسعد قد غَضَّ من أجفان واشينا
سِرَّانِ في خاطرِ الظَّلْماء يَكتُمُنا --------- حتى يكاد لسان الصبح يُفشينا
لا غَرْو فِي أن ذكرنا الحزن حِينَ نَهَتْ -- عنه النُّهَى وتَركْنا الصبر ناسِينا
إذا قرأنا الأسى يومَ النَّوى سُوَرًا ---------- مكتوبة وأخذنا الصبر تَلْقِينا
أمَّا هواكِ فلم نعدل بمنهله ------------- شِرْبًا وإن كان يروينا فيُظمينا
لم نَجْفُ أفق جمال أنت كوكبه ----------- سالين عنه ولم نهجره قالينا
ولا اختيارًا تجنبناه عن كَثَبٍ ------------ لكن عدتنا على كره عوادينا
نأسى عليك إذا حُثَّت مُشَعْشَعة------------ فينا الشَّمُول وغنَّانا مُغَنِّينا
لا أَكْؤُسُ الراحِ تُبدى من شمائلنا ------ سِيمَا ارتياحٍ ولا الأوتارُ تُلهينا
دُومِي على العهد، ما دُمْنا، مُحَافِظةً ---- فالحُرُّ مَنْ دان إنصافًا كما دِينَا
فما اسْتَعَضْنا خليلاً مِنك يَحْبسنا --------- ولا استفدنا حبيبًا عنك يُثْنينا
ولو صَبَا نَحْوَنا من عُلْوِ مَطْلَعِه ----- بدرُ الدُّجَى لم يكن حاشاكِ يُصْبِينا
أَوْلِي وفاءً وإن لم تَبْذُلِي صِلَةً ----------- فالطيفُ يُقْنِعُنا والذِّكْرُ يَكْفِينا
وفي الجوابِ متاعٌ لو شفعتِ به ------ بِيْضَ الأيادي التي ما زلْتِ تُولِينا
عليكِ مِني سلامُ اللهِ ما بَقِيَتْ -------------- صَبَابةٌ منكِ نُخْفِيها فَتُخفينا

ويبقى ابن زيدون الشاعر العاشق المعذب والسياسي الذي دفع ثمن حبه وتبقى ولادة الاميرة الفاتنة التي علمت كل العشاق كيف تنتصر لذاتها. هل كانت قسوة ام حبا لا يهادن؟ هل كانت مؤامرة سياسية أم صراعا بين العاشقين للفوز بقلب الاميرة؟ وتبقى الاجابة طي التكهنات ولكنها كانت قصة حب اندلسية ذات نكهة خاصة!
ايـاد

الأربعاء، مارس 12

أوراق


يا نديم الروح يا ندى الصباح ..
يا ثورة أشعلت القلب ونثرت اوراقي للرياح ..
فأحرقت بحرِّ أنفاسي قديم الجراح ..
على خديك ينبت عنب واقحوان واشجارالتفاح
نظمت لاجل عيونك احلى القلائد

كفاك صدا فقلبي كطائر كسير الجناح
أغدا توميء لقلبي عيونك بالسماح؟
آه من عذاب الهوى .... اه من بؤس افتضاحي
ذبل الفؤاد شوقا اليك يا سحرا من وراء وشاح
يا من تعزف بالالحان أعذب القصائد

ترسم سيدة البحر بالكلمات موسيقى ..
فترقص في الغياب حروف الهوى
اسمع في صوتك أنغامي .. وأرى باب السما
كل الاماكن والشوارع صارت منفى
كل المقاعد والاسوار تنتظر المطر ..
حتى ذبلت عليها أوراق الشجر ..

بحرنا لغز مخيف يثور تمردا كالمجنون
حديقتنا هجرها عشاق متيمون ..
ألم يتسلل الى قلبي كالمنون
تعذبني المسافات .. كم تعذبني
ضعي تعويذتك في أذني ..
اسكبي شوقك في دمي
كي يورق الامل من لحمي

لم أعد أطيق الصبرأوالجنون أوالنواح
توقفت عن نزع التقويم كل صباح
فمتى الوعد؟ متى يورق في حديقتي التفاح؟

ايـاد